طريق المقاومة كانت مُعبَّدة بالألغام: تحرير لبنان الذي لم تصنعه الصدفة: علي حيدر
يفرض التزامن بين الذكرى السنوية لتحرير الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000 (باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا…)، وبين الانتصار التأسيسي والمفصلي الذي أنجزه شعب فلسطين ومقاومته في معركة «سيف القدس»، التوقف عند أكثر من محطة ورسالة من أجل تكوين صورة دقيقة عن مراحل المقاومة والتحديات التي واجهتها في الطريق إلى التحرير، وأيضاً للعودة إليها في استخلاص العبر والاستفادة منها في مواجهة التحديات التي لا تزال تتوالى.
لم تكن الطريق أمام المقاومة معبّدة بل كانت وعرة ومزروعة بالألغام ومحفوفة بالمخاطر من أمامها وخلفها وحولها. لذلك فإن انتصاراتها لم تستند حصراً إلى العبوة والصاروخ والرصاصة بل أيضاً إلى فكر استراتيجي استثنائي أدارت في ضوئه قيادتها معاركها وجولاتها فالتفّت على الألغام وانتصرت على العدو وعزَّزت حلفاءها وتعزَّزت بهم. ومن أبرز تجليات الإقرار بهذا الفكر الاستراتيجي، ما صدر على لسان رئيس حكومة العدو، إيهود باراك، وفي ذروة احتدام المواجهة مع المقاومة قبل أشهر من التحرير، «على الرغم من أننا نملك أفضل أجهزة الاستخبارات والتقدير في العالم إلا أننا نحتاج إلى رأس كثير الدوران لكي نعرف كيف نال منا حزب الله…».
صحيح أن كل مرحلة من مراحل المقاومة هي امتداد للمراحل التي سبقتها، وهي كذلك، إلا أن العقد (1990 – 2000) الذي شكّل التحرير تتويجاً له، كان يُفترض أن يكون عقد إحكام الهيمنة الأميركية على المنطقة، من بوابة «السلام» مع إسرائيل. وفي هذا السياق واجهت الكثير من التشكيك والتوهين والتآمر ومحاولة النيل منها ومن معنوياتها. في المقابل، لو كانت المقاومة رمزية وموسمية ولم تكن بأقصى درجات الجدية والفاعلية والتصميم على الاستمرار والتطور أياً كانت الأثمان والتضحيات، لما تجاوزت كل المطبّات والأفخاخ، ولما تحقق التحرير وما واكبه وتلاه من معادلات أسّست لمراحل جديدة من الصراع مع كيان العدو.
في الوقت الذي كانت المقاومة تخوض معاركها كان التقدير المهيمن لدى الكثير من القيادات السياسية هو أن المنطقة تتجه نحو «السلام» مع إسرائيل. ومن مقتضيات هذا المنظور أن المقاومة كانت خياراً عبثياً خاصة في المحطات التي كانت تتفاقم فيها المواجهة العسكرية ويرتفع فيها مستوى التضحيات والكلفة. ومن منظورِ آخرين، لم يكن التحرير أيضاً سوى أحد السيناريوهات النظرية المحتملة التي يمكن أن يخلص إليها مسار التطورات، لكنّ احتمال تحققه كان مخالفاً للمنطق الذي كان مهيمناً في ذلك الوقت نتيجة مجموعة عوامل تتصل بموازين القوى وبالظروف السياسية.
في المقابل، كانت المقاومة تعاند الرياح الدولية والإقليمية، عبر مراكمة الإنجازات الميدانية وفي مواجهة الآلة الصهيونية المتطورة، وعبر التصميم الذي كانت تواجه به العواصف السياسية والأمنية، وعبر التخطيط والأداء الاستثنائيين، وعبر الاستعداد لتقديم أقصى التضحيات. وعلى هذا الطريق استُشهد وجُرح الآلاف وهُدمت منازل وهُجِّر مئات الآلاف واستشهد قادة وكوادر ومقاومون… ثم كان التحرير.
بالتوازي، لا ينبغي أن يغيب عن البال دور الحاضنة الإقليمية للمقاومة، الجمهورية الإسلامية في إيران وسوريا اللتين من دونهما ما كان لهذا التحرير أن يتحقق. فكلتاهما كانتا شريكتين في الأثمان والإنجازات. ولعبت سوريا – الأسد، في هذا السياق أيضاً دور الحامي لظهر المقاومة في التسعينيات. ومن الواجب التأكيد على صمود الرئيس الراحل حافظ الأسد، في مواجهة الضغوط الأميركية والتهويل الإسرائيلي إزاء إمكانية اتساع نطاق اعتداءاته في ذروة المواجهة مع حزب الله، إلى سوريا. ولا يخفى أيضاً الأثمان التي كانت ولا تزال تدفعها الجمهورية الإسلامية نتيجة موقفها من قضية فلسطين ودعم المقاومة في لبنان وفي مواجهة كل أنواع الضغوط. والأمر نفسه تكرر مع المقاومة في فلسطين عبر إمدادها بالمقوّمات المادية والعسكرية والتدريب والتأهيل. وأبرز تجلٍّ كاشف عن هذا الدور ما صدر على لسان قائد حركة حماس في غزة، يحيى السنوار الذي سبق أن شرح دور الجمهورية الإسلامية في إمداد المقاومة بالقدرات الصاروخية التي مكّنتها من الصمود والانتصار في جولات 2008 – 2009، وفي عام 2012، وخلال 51 يوماً في عام 2014. وتجلى أيضاً أخيراً في الشكر الذي وجهه رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية إلى إيران على دورها في إمداد المقاومة بالمال والسلاح والتقنيات التي مكّنتها من الانتصار في معركة سيف القدس.
انتصارات المقاومة أحدثت تحوّلات في وعي حلفائها وقادة العدوّ
انتهج كيان العدو في مواجهة حزب الله الاستراتيجية التي بلورها في خمسينيات القرن الماضي لمواجهة الفدائيين وتعاقب على تنفيذها طوال العقود التي تلت وفي أكثر من ساحة وصولاً إلى لبنان. استندت هذه الاستراتيجية، وفقاً للصياغة التي نصها موشيه ديان، إلى «جبي أثمان مؤلمة لدمنا» من المقاومين والمدنيين ومن جهات دولتية (جيش، منشآت، مؤسسات…). والرهان الأساسي لهذه العقيدة هو أن يؤدي إلى تحقيق الردع بالتراكم. فعمد العدو إلى استهداف رأس الهرم للمقاومة، السيد عباس الموسوي، ونفّذ عدداً كبيراً من عمليات الاغتيال التي استهدفت كوادر المقاومة ومقاوميها، والقرى والمدن في الجنوب والبقاع وصولاً إلى الضاحية الجنوبية، بهدف تحويل المقاومة إلى عبء يفوق بنظر الشعب اللبناني جدوى غير مضمونة في أحسن الأحوال.
في المقابل، أدرك حزب الله أن خطة العدو لا تُواجه إلا بخطة مضادة. انطلاقاً من أنه مهما بلغت قوة ضربات المقاومة، إن لم تكن ضمن خطة متكاملة فهي لن تحقق أهدافها. وضمن هذا السياق، أتى إبداع حزب الله لمعادلة الصواريخ التي فرضت معادلة أدت إلى كبح العدو عن التمادي في اعتداءاته ضد المدنيين (أبرز المحطات التي جسّدت هذه الاستراتيجية مواجهة عدوان 1993، وعدوان عناقيد الغضب عام 1996). ومِن أبرز مَن أقر بشكل صريح ومباشر بهذه المعادلة الرئيس السابق لهيئة أركان جيش العدو، غادي ايزنكوت، الذي أوضح في محاضرة عندما كان يتولى قيادة المنطقة الشمالية بالقول: «حرِص حزب الله جداً على ألا يطلق الصواريخ على بلدات إسرائيلية، إلا أن يكون ذلك رداً على عمليات إسرائيلية… واذا لم تخنّي الذاكرة، فإن جلّ إطلاق الصواريخ على البلدات الإسرائيلية كان، كما قلنا آنفاً، على إثر عمليات للجيش الإسرائيلي اعتبرها حزب الله تجاوزاً لخط ما» (معهد أبحاث الأمن القومي/ نشرة الجيش والاستراتيجية/ المجلد -2/ حزيران 2010).
نتيجة ذلك، نجح حزب الله في تحويل المنطقة الأمنية إلى عبء على مستوطنات الشمال، عبر تدفيعها ثمن تمادي جيش العدو في اعتداءاته على المدنيين. ونجح في تحويل مستوطنات شمال فلسطين المحتلة إلى عبء وقيد على صانع القرار السياسي في تل أبيب لدى دراسة خيارات عدوانية على لبنان. وعندما فشل العدو في كسر الحلقة التي أحكمها حزب الله، بعد محاولات متكررة، اضطر إلى التسليم بالمعادلة التي فرضتها المقاومة. وفي هذا السياق كشف قائد المنطقة الشمالية اللواء عميرام ليفين (1994 – 1998) أنه عرض على هيئة أركان الجيش خطة طَموحة للقضاء على عناصر حزب الله، إلا أنه تم رفضها من قبل القيادتين العسكرية والسياسية والسبب كما قاله بنفسه إن «ذلك سيؤدي إلى استهداف شمال إسرائيل». وفي السياق نفسه، يكشف أحد كبار ضباط استخبارات المنطقة الشمالية في محطة سابقة أنه كثيراً ما تم إلغاء خطط عملياتية نتيجة القيد الذي وضعته القيادة السياسية بضرورة أن لا تؤدي إلى استهداف مستوطنات الشمال، ويعني ذلك أن قرار قيادة حزب الله باستهداف مستوطنات الشمال بالصواريخ كان حاضراً على الدوام على طاولة أي خطة عسكرية تستهدف المقاومة. وهكذا نجح حزب الله، في حصر ساحة المواجهة بعيداً عن العمق اللبناني، ما مهّد الأرضية لمواصلة المقاومة عملياتها التي كانت تستهدف جنود الاحتلال، وصولاً إلى التحرير.
مع ذلك، ما ينبغي التأكيد عليه أن ذلك لم يتحقق في جولة أو اثنتين… وإنما عبر مسار تراكمي أدرك معه العدو أن قرار حزب الله النهائي هو في مواصلة المقاومة والتصدي للاعتداءات وجبي أثمان من جبهته الداخلية (ضمن مستوطنات الشمال في حينه)، ما دام الاحتلال قائماً ومهما كانت الأثمان والتضحيات.
في ضوء ما تقدم، تتضح حقيقة أن محاولة فهم معادلات الردع الذي أصبح أكثر جلاء في مراحل لاحقة، ستبقى ناقصة من دون العودة إلى المحطات التأسيسية في تسعينيات القرن الماضي، والتي لم تتبلور إلا بالتراكم. والأهم أن هذه الانتصارات «التراكمية» أدت إلى تحولات مفاهيمية في وعي صناع القرار في تل أبيب الذي تطور واتسع تدريجياً تحت ضغط المقاومة، وصولاً إلى التسليم بحدود قوة إسرائيل في مواجهة مقاومة حزب الله، رغم ما تتمتع به من تفوق نوعي على المستويات التكنولوجية والعسكرية والدولية.
يبقى أن نشير إلى أن خصوصية التحرير لا تقتصر فقط على كونه أدى إلى اندحار الاحتلال من أراضٍ لبنانية، بل أيضاً لكونه شكّل محطة تأسيسية في حاضر لبنان ومستقبله، وغيّرت مسار التاريخ في المنطقة. وانطلاقاً من هذا البعد، فقد كان أيضاً التحرير انتصاراً لفلسطين وللشعوب العربية. إذ أسّست المقاومة من خلاله لخيار استراتيجي ناجع قدَّمته إلى شعوب المنطقة، في مواجهة تفوق الاحتلال على كلّ المستويات. والأهم أن ذلك لم يكن من موقع التنظير المجرد، بل من موقع التجربة المدوّية في نجاحها. وما يضفي على رسالة الانتصار والتحرير المزيد من التألق والفرادة، أنه تحقق بعد سلسلة محطات فاشلة في الصراع مع إسرائيل، استغلها الأعداء والمهزومون والعملاء بالمعنى الواسع للكلمة، من أجل تحويل الهزائم العسكرية التي تعرّضت لها دول المنطقة، إلى هزائم ثقافية ونفسية، بهدف قطع الطريق على شعوب المنطقة للنهوض مجدداً. وفي هذا الإطار، لم يكن صدفة (باعتبارها أحد العوامل الرئيسية) أن يعقب التحرير الأول في عام 1985، انطلاقة الانتفاضة الأولى في عام 1987. وبعد أربعة أشهر على تحرير عام 2000، كانت انطلاقة انتفاضة الأقصى. وبعد الانتصار الاستراتيجي والتاريخي في حرب عام 2006، تم نقل تجارب المقاومة وتكتيكاتها إلى فلسطين التي تراكمت تجاربها وتطورت خبراتها وتجلّت في المواجهة التي تلت…
(الاخبار)