بقلم غالب قنديل

كلمة بري في عيد التحرير نداء تاريخي

 

غالب قنديل

منذ انتصار المقاومة وطرد الاحتلال الصهيوني، جعل الرئيس نبيه بري من عيد التحرير محطة سنوية لإعادة تقييم الحياة الوطنية، وتعيين التحدّيات واقتراح الأولويات، التي يستنهض القوى الحية والرأي العام للتحرّك حولها، بناء على تشخيص دقيق، وتصوّر واضح وعملي للمخارج الممكنة.

 

أولا: إن الخطاب الذي توجّه به رئيس حركة أمل ورئيس المجلس النيابي بمناسبة عيد المقاومة والتحرير هذه السنة، كان بمثابة دعوة مفتوحة ومتجددة الى سائر القوى الحية في البلاد لتوحيد جهودها في مشروع إنقاذي واقعي وممكن، تضمّن خطاب رئيس المجلس مفاتيحه المنهجية، وأهمّ بنوده على جميع المستويات. وهو يستحق الدراسة والتنويه كمبادرة إنقاذية طليعية، في زمن كارثي حافل بالمخاطر والتحديات، يشهد استغراق النصّ السياسي المحلي ومفردات الجدل اللبناني اليومي، كما تعكسه وسائل الإعلام، في متاهة من التآكل والتناحر العقيم، وابتعاد كلّي عن بيت القصيد، أي عن المساهمة في اقتراح وابتكار أفكار جديدة، تساعد في بلورة مناخ صحي، يقدّم دليل عمل سياسي لوقف الكارثة، وتلمّس سبل النهوض بالبلد من جديد.

اختار رئيس المجلس النيابي ورئيس حركة أمل إضاءة شمعة بدلا من لعنة الظلام. وكان كعادته مبادرا وخلّاقا ورؤيويا. ونستطيع أن نقول إن خطابه، هو وثيقة إنقاذية، يجب أن ينكبّ الواقع السياسي على دراستها وفهمها، وبلورة المبادرات والخطوات العملية المطلوبة لترجمتها بكل الوسائل والأدوات الممكنة، سواء في المستوى التشريعي أو التنفيذي، عبر المؤسسات الدستورية.

ثانيا: إن الترابط الذي حملته كلمة الرئيس بري، وأشارت اليه، بين استكمال الإصلاح الدستوري والسياسي، الذي نصّ عليه اتفاق الطائف وبين الإنقاذ الاقتصادي، يلخّص في الحقيقة خبرة التجربة السياسية اللبنانية منذ الطائف الى اليوم، والتي تشير الى خطر مقيم، شكّلته حالات الهياج وصعود العصبيات والتشنجات والتوتر الطائفي الانقسامي، الذي صاحب خضات وأزمات عديدة اجتازها البلد خلال العقود الأخيرة، واقتضى إنهاؤها جهودا سياسية وعملية استثنائية. وقد تحمّلت ذلك العبء وتلك الكلفة جميع المؤسسات العامة، ولا سيما منها الجيش اللبناني، الذي جمع بين دوره الرئيسي في منظومة القوة والردع ضد العدوان، وبين حماية الوحدة الوطنية وحراسة السلم الأهلي، الذي تهدّده الخضات السياسية والتوتّرات الاجتماعية المتكرّرة.

لا شكّ، إن المعضلة المركزية ما تزال في تحدي بناء الدولة الوطنية والمؤسسات، التي تؤمّن للحياة العامة نسقا جديدا مستقرا، يحاصر ثقافة الانقسام والعصبيات. وهو الأمر الذي شدّد عليه الرئيس بري، منذ دعوته التأسيسية لتشكيل الهيئة العليا لإلغاء الطائفية، ولوضع خطة زمنية متدرّجة لإلغائها، ولتجاوزها نهائيا على صعيد البنيان السياسي والاجتماعي. ولذلك نقول إنه يضع الإصبع على الجرح، الذي ما زال ينفتح على إيقاع الأزمات والخضّات، ليتضح مجددا أنه ما زال ملتهبا وقابلا للتفاقم، ولم توضع المعضلة المولّدة له في طريق الحلّ المنشود.

ثالثا: ليس أحد، والرئيس بري بشكل خاص، من موقعه الوطني والدستوري، في وارد الانقلاب على تسوية الطائف، والكلام عن ثورة دستورية، تنهي التسوية الطائفية الجديدة، التي تمّ التعاقد عليها وطنيا بعد الطائف، وإثر حرب أهلية دموية مديدة، كلّفت الشعب والبلد الكثير، وما تزال ندوبها الى اليوم.

إن ما طرحه رئيس مجلس النواب، هو دعوة واقعية ومسؤولة لمخرج دستوري واقعي، يتمثّل بإرساء قواعد الانتقال الى جمهورية جديدة، بتجاوز الطابع الطائفي للنظام السياسي، من خلال إقرار الجدول الزمني، الذي أوحى به نصّ اتفاق الطائف، حول إلغاء متدرّج للطائفية السياسية. ويعلم الجميع أن الرئيس نبيه بري قدّم، غير مرة، تصوّره حول هذا الموضوع بمجموعة من الأفكار الخلّاقة، التي تجسّد في مضمونها آلية سياسية دستورية لتحقيق هذا الإنجاز المنشود. ويعلم الجميع مقدار حرص الرئيس بري على حراسة الوحدة الوطنية والوفاق، وتلافي الانقسامات واحتواء العصبيات، وشلّ فعلها المتشنّج. وتشهد  التجربة الحيّة، بما فيها خلال الأشهر الأخيرة، كم يشكّل حرص هذه القامة الوطنية، وهذا الموقع الدستوري صمام أمان في الواقع اللبناني، يؤهّله، ومن موقعه كرئيس للسلطة التشريعية، لفتح الأبواب أمام لبنان، لدخول عهد تجاوز الطابع الطائفي للسلطة، بآليات دستورية هادئة، محصّنة شعبيا ووطنيا. فرئيس المجلس يسعى الى انتقال دستوري سلس، يُجمع عليه اللبنانيون بجميع انتماءاتهم ومشاربهم، نحو تجاوز الصيغة الطائفية وفق جدول زمني متدرّج، تحدّث عنه بكل صراحة ووضوح. وبالتالي، من حقنا أن نسأل عن مواقف الأطراف والمرجعيات الأخرى في الجمهورية، لملاقاة هذه المبادرة، وضرب موعد للبنانيين مع زمن جديد، محرّر من العصبيات والتناحر والشحن الطائفي.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى