كتاب مفتوح إلى رئيس وأعضاء مجلس القضاء الأعلى: ناصر قنديل
– تعقدون اجتماعاً اليوم، ربما تنتبهون أو لا تنتبهون إلى طابعه التاريخي بالنسبة لبلدكم لبنان، حيث كل شيء استثنائيّ. فالسلطة السياسية التي تشكل نواة النظام الدستوري معطلة ومنقسمة ومشوشة وتحكم مواقفها حسابات وتجاذبات دون مستوى التحديات، والسلطات المالية والنقدية التي كانت موضع ثقة وتقدير اللبنانيين لما بدا أنه نجاح في الحفاظ على سعر النقد والودائع، فقدت هذه الثقة مع انهيار سعر النقد وضياع الودائع، والسلطات العسكرية والأمنية ليست سلطات بالمعنى الدستوري، ولا تملك القيام بأكثر مما تقوم به من منع الانهيار الأمني والذهاب الى الفوضى، لكنكم تعلمون أن الأمل معدوم، وأن جوهر اليأس العام الذي يسيطر على اللبنانيين مصدره الشعور بأن لا مرجعية لإحقاق الحق، وهذه هي مهمة القضاء، الذي يعذره اللبنانيون في كثير من عناصر القصور والضعف، سواء لجهة غياب التشريعات التي تكرّس استقلاله كسلطة دستورية، او لجهة ضعف الإمكانات والمقدرات، او لجهة انعكاسات الإنقسام السياسيّ على الجسم القضائي، لكن إذا سقط الأمل بقدرة القضاء على إعادة بناء الأمل، فهذا يعني السقوط النهائي للوطن.
– لا يطلب الناس من القضاء اليوم معجزة، ولا انتفاضة ولا ثورة، ولا حلولاً جذرية للمشكلات المزمنة، التي يجب التوجّه لطلب حلها الى غير القضاة، ولا يطلب اللبنانيّون في شؤون القضاء نفسها إنهاء كل القضايا العالقة، فما يطلبه اللبنانيون من القضاء هو أن يقول للبنانيين إنه في قضايا جوهرية واضحة وحساسة، تتصل بالملفات المالية وقضايا الفساد، ثمّة مرجعية يمكن الركون الى تحملها للمسؤولية، وهي المرجعية القضائية، التي تسقط أمامها وحدها بقوة القانون السرية المصرفية، وتسقط أمامها الحصانات لجهة الحق في توجيه الاتهام، وإن بقيت الحصانات في القدرة على إجراء المحاكمات بالنسبة للرؤساء والوزراء، والقضية عند اللبنانيين ليست في المحاكمة، بمقدار ما هي بتوجيه الاتهام، شرط أن يكون منصفاً ومبنياً على القانون، والقانون فقط.
– تنظرون اليوم في مشكلة عنوانها، انتظام الجسم القضائي وفقاً لقواعد الهرمية والتراتبية، وهذا شأن يهمّ اللبنانيين، الذي لا يفرحهم أن يروا القضاء يتفكك وتدخل اليه الفوضى والانقسامات التي هشمت كل شيء، لكن السؤال الذي يشغل بال اللبنانيين هو بالتحديد، هل عليهم الاختيار بين صمت القضاء موحداً، وتفرّد صوت قضائي بدا لهم أنه يتجرأ على ملاحقة ما ينتظرون من القضاء أن يفعله مجتمعاً، أم أن الاختيار الذي ستضعونه أمام اللبنانيين هو بين فوضى قضائية لا تصل بالقضايا المفتوحة حتى نهاياتها لأن قانونيّتها مشوبة بالتجاوزات، وبين تماسك قضائي نشط وفعّال في ملاحقة شجاعة لكل القضايا الساخنة، والسير بها حتى نهاياتها، وهي محصنة بقوة القانون وصلابة الجسم القضائي، فإن كان الخيار الأول هو المعروض، فالأزمة تكون قد نخرت القضاء وأطاحت بآخر حصون الأمل، وإن كان الخيار الثاني فاللبنانيون سيصفقون للقضاء ويحمونه ويشكلون متراساً أمامياً للدفاع عنه.
– كان الرئيس سليم الحص، عافاه الله وأمدّ بعمره، يقول إن الأوطان عندما تكون أمام قضية غالباً ما تواجه مشكلة ناجمة عن القضية، وتنشأ الأزمة الوطنية عن انقسام الناس بين أهل القضية وأهل المشكلة، فتضيع البوصلة عند البعض، وينصرف لمواجهة المشكلة ولو أدّى ذلك الى موت القضية، بينما يتمسك أهل القضية بالدفاع عنها متجاهلين المشكلة، وكان كلامه في معرض شرح أسباب الحرب في لبنان والانقسام حول القضية الفلسطينية المحقة التي نتج عن أحقيّتها حمل اللاجئين الفلسطينيين للسلاح طلباً لحق العودة، ونتج عن هذا السلاح مشكلة عنوانها المساس بالسيادة، وصار اللبنانيون نصفاً يدافع عن أحقية القضية وهو حق، ونصفاً ثانياً يدافع عن السيادة، وهو حق، والأزمات الوطنية تنشأ عندما يصطدم الحق بحق آخر، وكان الرئيس الحص يخلص الى القول إن الأصل يبقى بالتمسك بالقضية والسعي لحل المشكلة تحت سقف الحفاظ على القضية. والقضية اليوم هي قيام القضاء بفتح ملفات الفساد والخراب المالي وضياع الودائع وتهريب الأموال الى الخارج، والمشكلة هي الانتظام القضائي وتراتبيته، والتحدي أمام القضاء هو بإثبات أهليته وقدرته على انتزاع ثقة اللبنانيين بأنه لم يقتل القضية ليحل المشكلة، وأنه قادر على ملاحقة كل القضايا التي يريد اللبنانيون رؤيته يذهب بها من العتمة الى الضوء، وهو يحمي تراتبيته والتزام الصلاحيات، ويحصن قراراته وإجراءاته بإغلاق كل النوافذ التي قد تطعن بصدقيّة أية ملاحقة قانونية.
– النموذج الذي حمله قرار مدعي عام التمييز بإحالة ملف التحويلات المالية الى المدعي العام المالي، وما تضمّنه من طلب التحقيق في مطابقة التحويلات مع النصوص الإجرائيّة، لا يشكل الجواب المطلوب والذي ينتظره اللبنانيّون الذين يعلمون أن كل التحويلات، التي تمت إلى الخارج منذ عام 2017 والبالغة 40 مليار دولار استباقاً للأزمة التي كان يعلم بها عدد قليل من أصحاب السطوة والنفوذ في الأوساط المالية والسياسية، واستمرت خلال الأزمة وبعد انفجارها، قد استوفت الإجراءات المطلوبة، فهي حوّلت أموالاً يملك أصحابها حق التصرف بها، وسلكت طريق الحصول على الموافقات المصرفيّة والإداريّة. فهل هذه هي القضيّة، مرة أخرى عدنا الى القضية والمشكلة، القضيّة هي كيف حصل هؤلاء على فرصة تحويل أموالهم وحرم منها لبنانيون آخرون، ولماذا حوّل بعضهم أموالهم، وهم عندما فعلوا ذلك كانوا يقومون بتهريبها من لبنان، وهو ما يسمّى قانوناً بالإسهام بإضعاف النقد الوطني، لأنهم لم يفعلوا ذلك لتسديد مستحقات ولا بهدف توظيفها او استخدامها، بل لأنهم علموا بأن النظام المالي والمصرفي ذاهب إلى الانهيار. فهل سيعطينا التحقيق الجواب على هذه الأسئلة، أم أنه سيكتفي مرة أخرى بمعالجة المشكلة بقتل القضية؟