تركيا «تحرس» البحر الأسود: لا انخراط مع الأميركيين في «لعبة» دونباس: محمد نور الدين
تُحاذِر تركيا تلغيم علاقاتها مع روسيا، مُتنبّهة، في هذا الاتجاه، إلى مخاطر تحويل البحر الأسود إلى بحيرة دم لإرضاء الولايات المتحدة، الساعية إلى افتعال حرب أميركية – روسية بالوكالة في منطقة دونباس الانفصالية، شرق أوكرانيا، لا يزال «الفيتو» الألماني يحول دون اندلاعها، لما لبرلين من مصالح حيوية تجمعها بموسكو. وإذ تقتضي مسؤولية تركيا، والحال هذه، عدم السماح بانتهاك «اتفاقية مونترو» من قِبَل السُفن المتّجهة إلى البحر الأسود، تَبرز التحذيرات ممّا يعنيه انضمام أوكرانيا إلى «حلف شمال الأطلسي»، في ظلّ السياسات العدوانية التي ينتهجها الرئيس الأميركي جو بايدن، من البلطيق إلى الأسود فالمتوسط
كان من المثير فعلاً أن يخصّ الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، تركيا، بزيارة رسمية، بينما تنشغل فيه بلاده باحتمال تَجدُّد الحرب مع مقاطعة دونباس الانفصالية، شرق البلاد، والمدعومة مباشرةً من الجانب الروسي، وفي وقتٍ تتداخل فيه هذه الأزمة مع ما يُثار مِن نقاشات حول “اتفاقية مونترو” وتأثيرها على وضع القوى في البحر الأسود، في ضوء دخول سفينتَين عسكريتَين أميركيتَين إلى البحر المذكور دعماً لأوكرانيا، واحتمالات نشوب حرب بالوكالة بين أميركا وروسيا في الشرق الأوكراني.
وسط هذه المعمعة، تَبرز تركيا كبلد له دور فاعل ومؤثّر في البحر الأسود، وفي توازنات القوى الإقليمية والدولية. لهذا، لا يعود مستغرَباً النظر بدهشة إلى زيارة زيلينسكي لأنقرة، ولا إلى النتائج المترتّبة عليها. ومنذ بدء الأزمة في أوكرانيا في عام 2014، ومن ثم ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم، لا يزال الموقف التركي ثابتاً في معارضته الخطوات الروسية في منطقة دونباس الانفصالية، وفي القرم. وشدّد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، بعد محادثات مطوّلة مع نظيره زيلينسكي، على وحدة الأراضي الأوكرانية وسيادتها، وكرّر انتقاده لضمّ القرم، متعهّداً ببناء مساكن في أوكرانيا، كما ببناء جامع. وأشار إلى الجغرافيا المشتركة التي تجمع تركيا بأوكرانيا، ودعمه لـ”اتفاقيات مينسك” لوقف إطلاق النار، كاشفاً عن منتدى سيجمع وزراء الخارجية والدفاع في البلدين لتوثيق العلاقات بينهما، مطَمئناً إلى أن التعاون الثنائي لا يستهدف أيّ طرف ثالث، في إشارة غير مباشرة إلى روسيا. كذلك، تحدّث إردوغان عن تعزيز التجارة ليصل حجمها السنوي إلى عشرة مليارات دولار، فيما أعلن زيلينسكي إنشاء “منصّة القرم” التي ستجتمع في الـ23 من آب/ أغسطس المقبل، بمشاركة نظيره التركي. وفي البيان المشترك، ذهبت تركيا إلى أبعد حدٍّ ممكن، عبر إعلانها دعم أوكرانيا للانضمام إلى “حلف شمال الأطلسي”، ولكن…
برز التوتُّر المتجدِّد في أوكرانيا عقب مقتل أربعة جنود أوكرانيين على أيدي انفصاليّي دونباس في الـ26 من آذار/ مارس الماضي، ما أدّى، بدوره، إلى استنفار وحدات “الناتو” في رومانيا وبولندا، ودخول سفينتَين حربيتَين أميركيتَين إلى البحر الأسود. وفي اليوم ذاته، اعتمدت كييف وثيقة استراتيجية لـ”تحرير” القرم بعد سبع سنوات على إلحاقها من قِبَل روسيا، معلنةً إغلاق المؤسّسات الصحافية القريبة من موسكو. من بعدها، شهدت مقاطعة دونباس تحشيداً عسكرياً روسياً، فيما اتّهم زيلينسكي موسكو بالتحريض والسعي إلى إبقاء أوكرانيا تحت الضغط، مذكّراً إيّاها بأن “الجيش ليس عبارة عن قوّة وقوات، بل أيضاً عقل واتزان” (تتّهم كييف موسكو بإرسال أكثر من 32 ألف جندي منذ ضمّ روسيا للقرم في 24 آذار/ مارس عام 2014، ونشر منظومة الدفاع الصاروخية “إس-400″، فضلاً عن سفن حربية). كما اتّهم رئيس تتار القرم، مصطفى عبد المجيد قرم أوغلو، روسيا، بأنها وطّنت في القرم، حتى الآن، 700 ألف، وربّما مليون روسي، فيما تعترف موسكو بـ205 الآف فقط.
تَبرز تركيا كبلد له دور فاعل ومؤثّر في البحر الأسود، وفي توازنات القوى الإقليمية والدولية
لكن التوتُّر في أوكرانيا يخفي ما هو أبعد، إذ ترى سيفيل نورييفا، في صحيفة “ستار” الموالية لإردوغان، أن الرئيس الأميركي جو بايدن يصعِّد من التوتُّر في أوكرانيا لتصفية حساباته مع روسيا، وليس لاستعادة الحقوق الأوكرانية. وتقول الكاتبة إن ألمانيا تسعى إلى التوفيق بين الأطراف المتنازعين، مع حرصها على ألّا تكون طرفاً في أيّ نزاع روسي – أميركي، لكونها تولي اهتماماً كبيراً لمصالحها المشتركة مع الروس، فيما تقاوم فرنسا فكرة إشعال الحرب التي تشجّع عليها الولايات المتحدة (والبلدان هما ضمن “رباعية نورماندي” الساعية إلى حلّ الأزمة في أوكرانيا). بل أكثر من ذلك، تقول نورييفا إن هناك رابطاً بين شروع السفن الأميركية في عبور المضائق نحو البحر الأسود، وبين بيان الأدميرالات الأتراك حول “اتفاقية مونترو”. وعلى رغم أن الحرب لم تندلع بعد بين روسيا وأوكرانيا، فإن تركيا، لكونها وصيّة على اتفاق المضائق، تُعتبر الوحيدة القادرة على التوفيق بين موسكو وكييف، وطريقة تحرُّكها ستكون في غاية الأهمية. ومن هنا، لا تصريح رئيس البرلمان التركي عن مونترو، ولا بيان الأدميرالات، جاءا من عبث. وتُشبّه الكاتبة الوضع في أوكرانيا بالوضع في جورجيا حيث لم يصمد الغرب حتى النهاية في دعمه لجورجيا المتمرّدة ولا في رغبتها في الانضمام إلى “حلف شمال الأطلسي“.
ويتساءل الكاتب المقرّب من إردوغان في صحيفة “صباح”، برهان الدين دوران، بدوره، عمّا إذا كانت أوكرانيا ستشكِّل ساحة الجولة الأولى من الصراع الأميركي – الروسي، وعمّا إذا كان التهديد باندلاع الحرب جسّاً أميركيّاً للنبض الروسي. ويقول دوران إن الرئيس الروسي أوقَف التوسُّع الغربي في جورجيا عام 2008، وفي أوكرانيا عام 2014، وها هو يعرقل انضمام هذه الأخيرة إلى “الأطلسي”. وفي الصحيفة نفسها، يَعتبر الكاتب برجان توتار أن توتير الوضع من البلطيق إلى البحر الأسود فالمتوسّط، يُعدُّ من نتاج سياسات بايدن الجديدة. ويحذّر البعض، وفق توتار، من أن تصاعُد التوتّر ربّما يؤدّي إلى حرب عالمية ثالثة، لكن هذا الاحتمال ضعيف جداً، بل مستبعد. ومن الأهمية بمكان الدور الذي يمكن أن تقوم به كلّ من ألمانيا وتركيا، علماً بأن الولايات المتحدة تريد من جرّاء أزمة أوكرانيا أن تستميل كلّاً من تركيا والاتحاد الأوروبي إلى صفّها. وفي حال نجحت أميركا في اختبارها الأوكراني، فربّما تمتدّ رقعة “الأطلسي” إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفي نهاية المطاف، سيتمثّل الهدف النهائي لواشنطن في استخدام “الناتو” كأداة ضدّ الصين. ولذا، تولي الولايات المتحدة أهمية لكلّ بلد يمتدّ من البلطيق إلى البحر المتوسّط (علماً بأن الجبل الأسود قد دخلت “الأطلسي” في عام 2017، ومقدونيا عام 2020. واليوم، يأتي الدور على أوكرانيا وجورجيا وفنلندا). لكن “الفيتو” الألماني هو الذي يحول، حتى الآن، دون استخدام “الناتو” في الورقة الأوكرانية. وبسبب هذا “الفيتو”، خسرت كييف وواشنطن المواجهة الأوّلية، لتذهب الولايات المتحدة نحو الخطوة الثانية، أي المرور عبر المضائق بسفينتَين، فيما على أنقرة، بحسب الكاتب، ألّا تسمح بانتهاك “اتفاقية مونترو” من قِبَل السُفن المتّجهة إلى البحر الأسود، وهو ما تفعله.
لكن عين الولايات المتحدة، يقول توتار، على أكثر وأكبر من ذلك: “عينها على إدخال حاملة طائرات إلى البحر الأسود. ولو وافقت تركيا على ذلك، فسيكون عاملاً في تلغيم العلاقات التركية – الروسية”. وفي النهاية، لن تكون أوكرانيا هي الرابحة، وستُترَك لمصيرها، لأن الولايات المتحدة لا تهدف إلى مساعدتها، بل محاصرة روسيا. وفي حال تحوَّل البحر الأسود إلى بحيرة دم، ستأمل أميركا تفجير العلاقات التركية مع روسيا والاتحاد الأوروبي. لذا، من مصلحة الأتراك اليوم أن ينقذوا زيلينسكي من براثن الأميركيين. وكلّ الأمل في أن تكون زيارة الرئيس الأوكراني إلى أنقرة فرصةً لينتقل إلى مصاف الاستراتيجيين العاقلين.
ويكتب النائب المعارض في البرلمان التركي، مصطفى بلباي، في صحيفة “جمهورييت”، من جهته، أن تركيا هي البلد الأكثر حساسيّة في هذه الأزمة، لأنها الوَصيّة على “اتفاقية مونترو”. فإردوغان يقول: “إلى أن نجد أفضل منها، فإنّنا مرتبطون بمونترو”. ويتساءل بلباي: “ما هو الأفضل من مونترو؟”، ليقول إن روسيا ليست جارة تركيا الشمالية فحسب، بل جارتها الجنوبية، وما يثار في روسيا يخرج من سوريا، ذلك أن “الدول الكبرى لا تتحارب في ما بينها، بل تتقاسم الحروب، فيما الدول التي تستخدمها الدول الكبرى هي التي تحارب وتموت”. وفي الصحيفة نفسها، يكتب أورخان بورصه لي أن الغرب يحاصر روسيا مباشرةً من طريق ليتوانيا وإستونيا، وإذا نجح “الأطلسي” في التمدُّد إلى أوكرانيا وبيلاروسيا، حينها يكون قد حاصر روسيا بالكامل من جهة الغرب. كما سيصبح البحر الأسود، إلى حدٍّ كبير، بحيرة أطلسية. وينقل بورصه لي عن القائد السابق للقوات الأميركية في أوروبا، الجنرال بن هودجز، قوله، إنه “يجب اللعب في البحر الأسود على حدود روسيا، وأن تتوحّد ضدّها كلّ من بلغاريا ورومانيا ومولدوفا وتركيا وأوكرانيا، ومن ثمّ نضيف جورجيا. ويجب ألّا تشعر روسيا بالراحة على حدودها في البحر الأسود”. وفي موضوع حسّاس كهذا يخرج، وفق بورصه لي، “أفنديات” أنقرة ويتحدّثون عن تغيير في مونترو أو إقامة “قناة إسطنبول” لخرق “اتفاقية مونترو”.
(الاخبار)