المبادرة التي تغيّر وجه المنطقة
غالب قنديل
تراوح مفردات الجدل السياسي والثقافي ومختلف التعبيرات الإعلامية، على تنوّعها، في أداء تقليدي يعلك المعلوك، ويكرّر مألوف الكلام والمتابعات المشحونة ببواعث الضجر وتعميق اليأس وانعدام الآفاق المستقبلية، التي تحتمل التغيير أو تحمل وعدا جدّيا بالفرص المتاحة.
أولا: إن من يتابع المشهد الإعلامي يصاب بكآبة مقيمة لغياب أي آفاق أو أفكار جديدة وواعدة أو حتى أسئلة تتعلّق بكيفية إبداع المخارج والحلول الكفيلة بانتشال لبنان من كارثة مقيمة. وهذا بذاته هو أحد أخطر مظاهر الدوامة اللبنانية والمأزق، الذي ينضح بعقم فكري وثقافي وعجز عن الإبداع. فدائما، وفي قلب الكوارث والمصائب، تتحفّز العقول لاكتشاف المخارج وإيجاد الحلول بنتيجة الدراسة الواقعية لجذورها ومساراتها، وليس فقط في حصيلة تأمّل يمارسه الأفراد، أيّا كانت عبقرياتهم. ومّن يدرس الواقع اللبناني والعربي والدولي بمنهج علمي بمستطاعه التماس طرق الحل واقتراح مسار جديد، لا ينهي الكارثة فحسب، ولا يقف عند حدود احتواء مظاهر الأزمة، التي هي أزمة انهيار خطير وشامل، بل صنع مقدمات قوة اقتصادية وسياسية وشراكات، تعطي للبلد الصغير ثقلا نوعيا ودورا محوريا.
ثانيا: إن الأزمات ومراحل الانحدار في تاريخ البلدان والشعوب لم تنته إلا بفضل رواد أبدعوا أفكارا جديدة، واستخرجوا من الواقع المرّ عناصر قوة، يمكن استنهاضها لضرب موعد مع مستقبل جديد. وهذا هو بالذات ما ندعو الى العمل عليه بجهد جماعي فكري وثقافي وسياسي، هو مخاض الخلاص، الذي لا غنى عنه، وبديله الواقعي، هو المراوحة في مستنقع استنزاف وهلاك زاحف على جميع المستويات.
إن أشدّ ما ينبغي الالتفات الى خطورته، هو أن تحولات كبرى تتراكم من حولنا، ولبنان غافل، تسرقه سكاكين التناحر البائس في تفاصيل اللعبة السياسية العقيمة، التي تضيع معها القضايا الكبرى والفرص التاريخية. بل إن الإعلام اللبناني المعروف بنشاطه وديناميكية العاملين فيه، يكاد يخلو من أيّ محاولة لمواكبة التحوّلات الجارية من حولنا، وهي نذير ثورة شاملة في الواقع الإقليمي والعربي، تستدعي يقظة لبنانية بمستوى التقاط الفرص التاريخية المتاحة، والتي لن تكون معها المهل الزمنية ممتدة. فشروط الشراكة والتحالفات الممكنة تتحول وتختلف مع البعد الزمني. والدولة أو الجهة، التي نقيم معها شراكة مخلصة في زمن ضِيق، وفي بداية تلمّسها لطريق مستقل وتحرّري في التنمية، ستصبح الشراكة معها أكثر تعقيدا وأعلى كلفة عندما تقطع شوطا كبيرا في مسارها الخاص.
ثالثا: إن على لبنان المسارعة، من اليوم، الى فتح الخطوط المباشرة للتواصل والحوار مع الدول الشقيقة سورية والعراق واليمن ومع إيران ، وعدم التريّث أو التحسّب من الغضب الغربي والأميركي، فالعالم كلّه يتغير، وإيران بالذات، باتت تصبح مقصدا للإمبراطوريات العاتية في العالم، التي تلقي جانبا أقنعة الغطرسة، وتسعى بكلّ توسّل وخشوع الى أبواب طهران، ومسارات التعاون والشراكة الممكنة، لأنها تجد فيها فرصا وافرة في ظل منافسة عالمية طاحنة، يحفّزها صعود الصين السريع كقوة اقتصادية عالمية عظمى، وثبات القوة الاستراتيجية الروسية بإمكاناتها العملاقة. وهذا الواقع المتغيّر، يشكّل فرصة لبنانية نادرة، يجب التقاطها بدلا من التعفّن بإدمان أفكار قديمة بالية، وعلك مسلمات ولّى زمانها وباتت من الماضي. والحقائق الجديدة لا يمكن أن تلاقيها إلا عقول خلاقة وإرادات حرة. ولذلك كانت حصيلة التخلّف عن مواكبة التحولات والتقاط الفرص، هي الذبول والوهن، الذي سقطت بنتيجته إمبراطوريات عظمى، فكيف بدولة صغيرة مأزومة بالكاد تحوز فرص الاستمرار والبقاء في ظل أزمتنا الخانقة؟. وهذا الواقع الدولي المتغيّر، الذي تغشى عنه عقول بعض نخبنا السياسية والإعلامية بارتهان ماضوي ولّى زمانه وانتهى.