فصل جديد من المواجهة البحريّة: إسرائيل تُرحّل الخسارة: يحيى دبوق
لم يكن مُرجّحاً أن تختار إسرائيل المضيّ في المعركة البحرية التي فتحتها مع إيران، لكنّ الفريق المؤيّد لاستمرار المعركة خشية التداعيات المتوقّعة للتراجُع عنها، غلَب رأيه رأي الفريق الآخر الذي يعتقد أن الإصرار على مواجهة لا توازُن فيها بين الجانبَين، مُضرٌّ بالمصالح الإسرائيلية. على أيّ حال، باتت الكرة الآن في ملعب الطرف الإيراني، فيما يبدو أن تل أبيب تجازف باستدراج سيناريوات أكثر خطورة ممّا تحاول تجنُّبه راهناً
اختارت إسرائيل أن تُكمل الحرب البحرية التي بدأتها في مواجهة إيران. اختيارٌ يأتي على رغم التقديرات التي رَجّحت تراجعها، بالنظر إلى انعدام التوازُن في هذه المعركة بين الجانبين، خصوصاً بعد أن استهلكت تل أبيب ما فيها من فوائد إلى أن تَحوّلت إلى تهديد. والظاهر أن خطأ الحسابات وسوء التقدير المبنيَّ على مقدّمات مغلوطة إزاء الحدّ الذي يمكن أن تصل إليه المواجهة، وكذلك الإدراك المسبق للتأثير السلبي للتراجُع على الحرب الأوسع، كل ذلك أثّر على القرار الإسرائيلي، ودفع تل أبيب إلى ما كان بإمكانها تجنُّبه.
مع ذلك، يمكن، من زاوية رؤية مغايرة، تفهُّم أو تفسير القرار الإسرائيلي. إذ يَصعُب على إسرائيل التراجُع في معركة يقال إنها تخوضها بنجاح وبلا ردود رادعة منذ سنوات ضدّ أعدائها، وإن كانت تدرك الآن أن الاستمرار فيها وفقاً لما وصل إليه حدّها أخيراً، مضرٌّ بالمصالح الإسرائيلية. ومن هنا، يبدو أن قرار تل أبيب استند إلى التداعيات السلبية المحتمَلة للتراجُع عن المعركة البحرية على الحرب الأوسع والأشمل، ليس في مواجهة إيران نفسها فقط، بل وأيضاً قوس حلفائها الذي يراقب مآلات هذه المواجهة، ليبني عليها قراراته “الرَّدّية” لاحقاً.
ولعلّ واحداً من أهمّ الأسئلة وأكثرها صعوبة التي حضرت على طاولة القرار في تل أبيب في هذا الإطار، هو ما يتعلّق بتهديدات إسرائيل على المستوى النووي وصدقية تلك التهديدات: فإذا كانت ستتراجع وتنسحب من معركة بحرية الهدف منها التشويش على وسائل النقل الإيرانية بين طهران وحلفائها، بسبب “ردّ متوازن” من قِبَل الأخيرة، فكيف لها أن تُهدّد إيران وحلفاءها في مستويات أعلى، مع تقديرات بأنها ستتلقّى أثماناً كبيرة ردّاً عليها؟ صدقية إسرائيل، هنا، ستكون محلّ تساؤل وشكّ، وهو ما لا يريده مَن اتّخذ القرار باستمرار المعركة البحرية. في المقابل، الرأي الآخر كان مبنيّاً على معطيات وتقديرات مختلفة، ونظرة مغايرة للتداعيات اللاحقة. إذ إن أصحابه يدركون صعوبة أن تبقى المعركة البحرية على مستواها ومنسوبها الإيذائي المرشَّح للتعاظُم، وصولاً إلى مواجهة بحرية أشمل، من شأنها أن تُجبر الطرفين – مع الفارق – على دراسة خياراتهما في الاستمرار في المعركة بعد تلقّي خسائر بشرية ومادّية بمستويات تختلف القدرة على تَحمُّلها والتعايش معها بين الجانبين.
الكرة الآن باتت في الملعب الإيراني، حيث سيكون لصاحب القرار أن يُحدّد مسار هذه المعركة ومصيرها
في المحصّلة، تغلَّب قرار الاستمرار على قرار التراجُع، وإن كانت إسرائيل تُخاطر كثيراً في تلقّي خسارة مضاعَفة لاحقاً، من شأنها التأثير سلباً عليها، وبمستويات أعلى ممّا أرادت أن تتجنّبه عبر قرار الاستمرار في المعركة واستهداف السفينة الإيرانية، التي، للمفارقة، بثّت تل أبيب عبر ضربها رسالة ضعف، كون الناقلة معروفة ومستوطِنة مياه البحر الأحمر منذ سنوات، ويقتصر عملها على الدعم اللوجستي للسفن الإيرانية قبل عبورها قناة السويس، من دون أيّ ربط لوجودها بالحرب على اليمن أو خلافه. لا يبعد، كذلك، أن تكون نظرة إسرائيل المُضخَّمة إلى نفسها واقتدارها وتسلُّطها، عاملاً مساعداً في اتّخاذها قرار الاستمرار في المعركة البحرية، مع الأمل في أن يستمرّ إفلاتها من الردّ الرادع، كما هو حالها في ساحات أخرى إلى الآن.
وفي انتظار ردّ إيران التي لم تعلن مسؤوليّتها رسمياً عن أفعال سابقة، تُرحّل تل أبيب أيّ تداعيات سلبية لخسارة المعركة البحرية على جبهات وساحات أخرى، هي مُفعَّلة ومحتدمة واقعاً بين الجانبين. إلّا أن هذا الترحيل تصاحبه خطورة بالنسبة إلى إسرائيل، مرتبطة بمستوى الردّ وحجمه وإمكانية تصاعُده إلى مستويات إيذاء أكبر وغير تناسبية، تدفع لاحقاً إلى الاختيار بين التراجُع الذي ستزداد كلفته، أو المضيّ قُدُماً في المواجهة. على أيّ حال، الكرة الآن باتت في الملعب الإيراني، حيث سيكون لصاحب القرار أن يُحدّد مسار هذه المعركة ومصيرها، أخْذاً في الاعتبار أيضاً صورة الاقتدار الذاتي والخشية من تداعيات التراجُع.
في هذا الوقت، يسود شبه صمت رسمي على الضفّة الإسرائيلية، فيما يبدو أن الجميع ينتظرون الردّ الإيراني ومستواه، لتبدأ التداعيات الداخلية على الجبهتَين السياسية والأمنية. وممّا تسرَّب في الإعلام العبري إلى الآن، يتّضح أن ثمّة خلافاً بين الأجهزة الأمنية والعسكرية، وكذلك السياسية، حول استمرار المعركة البحرية من عدمه، ومدى تساوُقه مع المصالح الإسرائيلية. ووفقاً لمصادر أمنية في تل أبيب تحدّثت إلى موقع “واللا”، فإن “هناك خلافات داخل الجيش الإسرائيلي، وكذلك بينه وبين الأجهزة الأمنية، حول طبيعة الردّ المطلوب بعد الهجوم على السفن المدنية الإسرائيلية من قِبَل الإيرانيين”. وأوضحت المصادر أن “المؤسّسة الأمنية تنتقد الطريقة التي يدير بها الجيش الإسرائيلي الحملة ضدّ إيران، في ضوء التقارير الأخيرة عن سفينتَين مدنيتَين مملوكتَين لإسرائيل هوجمتا في البحر الأحمر والمحيط الهندي”، مضيفة أن “مهاجمة السفينتَين تشير إلى فشل المعركة، وبالتالي فشل مَن يقودها، ولا توجد كلمة أخرى تُعبّر عن هذه النتيجة، إذ لا يمكن تعريض المصالح المدنية الإسرائيلية للخطر، ما يعني أن شخصاً ما بحاجة إلى إعادة التفكير في الأمر”. ونقل “واللا” عن خبراء قولهم إن السفينة الايرانية تُرابط على بعد مسافة كبيرة من اليمن، ولا دور لها في “تهريب” الأسلحة والوقود من إيران إلى المنطقة. وبحسب الخبراء أنفسهم ، فإن “الشخص الذي هاجم سفينة الحرس الثوري بثّ الضعف وليس القوة، خصوصاً أن كلّ مَن يبحر في المنطقة يعرف إلى مَن تنتمي هذه السفينة، لذا فهي ليست سفينة تعمل في الخفاء”.
(الاخبار)