الفرصة العراقية والبلادة اللبنانية
غالب قنديل
الموقف العراقي القيادي والشعبي النبيل للتضامن مع لبنان في ظرف كارثي، يشكّل مع غيره من مبادرات الأشقّاء والأصدقاء، متنفسّا في كارثة خانقة، يفتح كوة للأمل، ويؤشّر الى أن الطريق ليس مسدودا أمام السعي الى تعزيز مقوّمات الصمود والتصدّي للكارثة، والنهوض بالقدرات اللبنانية من جديد مع شراكات الإخوة والأصدقاء، وبرؤية جديدة وتفكير جديد يناسبان التصدّي للتحديات، ويلتقطان الفرص المتاحة.
أولا: إن العرض العراقي، الذي قُدِّم الى لبنان كان مبادرة لم يسعَ اللبنانيون الى طلبها، ولم يفكروا فيها أصلا، على صعيد المسؤولين، باستثناء قيادة حزب الله وأمينه العام، الذي يطرق كلّ الأبواب والخيارات في سبيل لبنان ومصالح شعبه. بل إن المفارقة تكمن في ردّ الفعل اللبناني، الذي ما يزال إجمالا، دون المستوى اللائق بالتعامل مع بادرة أخوية كريمة وسخيّة في زمن حاجة كارثي. وهذا بذاته، من مظاهر البطالة الفكرية والسياسية والتشوّهات المستحكمة في العقل اللبناني، الذي تبدّد طاقتَه اهتماماتٌ كثيرة خارج المهم والجوهري من القضايا، ويأسره استلاب وارتهان مقيم لتقاليد التبعية للغرب الاستعماري، بينما هو في الملمّات لا يجد إغاثة إلا من حضنه الشرقي والعربي، الذي يهبّ لنجدته دون سؤال ومن غير تَمنين، بل بشراكات تحفظ الكرامة الوطنية، وتحقّق المصالح المشتركة، دون أي كلفة تُذكر.
العرض العراقي يعفي البلد من كلفة قسم كبير من فاتورة حاجاته النفطية، التي ترهق الخزينة المريضة المعدمة، ولقاء صيغة للتعاون تحفظ كرامة لبنان، وتحقّق مصلحته الاقتصادية والمالية، بل إن الإخوة العراقيين أكدوا انفتاحهم على العديد من محاور الشراكة والتعاون، وحتى الآن لا نلمس في لبنان أيّ مبادرة جدية لاستطلاع الآفاق والفرص المتاحة، ولا حتى طرح الأسئلة عنها، وتقديم المعلومات، التي تنوّر الرأي العام والفاعليات الاقتصادية والمستويات المسؤولة في البلد. وهذا دليل آخر على عقمٍ مقيم، رغم الادّعاء المتضخّم للمعرفة والتنوّر، الذي ليس لدى بعضنا سوى تشوّف حضاري و”نفخة كذّابة“.
ثانيا: ندعو جميع اللبنانيين الى التمسّك بأخلاقيات التواضع، وبنبل الأخوة، التي تقابل المبادرات السخيّة في ظرف حرج بإرادة جدية والتزام عملي، يُرسي قواعد التعاون والشراكة مع المخلصين، الذين بادروا من حساب رخاء شعبهم ليساعدوا شعبا شقيقا. والعراق الغني بثرواته ليس في زمن بحبوحة بعد ما ألحقه به المعتدون طيلة عقود من دمار وخراب. فبعد الغزو والاحتلال الأميركيَين كانت غزوة التكفير والإرهاب التي دامت لسنوات. وما زال اشقاؤنا العراقيون يحملون التبعات والنتائج في تقشّف العيش وكلفة مداواة الجروح وإنهاض الاقتصاد والتخلّص من آثار الدمار والخراب، الذي خلّفته الحروب والغزوات المتعاقبة منذ الاحتلال الأميركي. وهذا العامل بالذات يُكسب المبادرات العراقية نحو لبنان قيمة مضاعفة وكبيرة، تستحقّ من اللبنانيين ما يتخطى العرفان والشكر، الى نبل الشراكة والروح الأخوية في مجابهة التحديات، ولا سيما أن كلّ من يبادر في زمن ضيق خطير، هو أخ عزيز وشريك أمين، ينبغي التعامل معه بروحية مناسبة. وما سيحمله العراقيون من تضحية في مضمون عرضهم، يعكس تغليب المصلحة اللبنانية وعدم توخّي الربح أو استغلال الفرصة. وهذا بذاته شاهد لروح الأخوة والإيثار، التي ينبغي على كلّ لبناني أن يقدّرها.
ثالثا: نجدها مناسبة جديدة لنؤكد على أن حضن لبنان الطبيعي، هو هذا الشرق العربي، وأن الجهود يجب أن تنصبّ على تطوير العلاقات مع العراق ومع سورية وسائر الدول الشقيقة والصديقة، التي بادرت بنبل وأخوة لنجدة لبنان. وتصميم بعض الشرائح والقوى النافذة في البلد على حشرنا في خانة الارتهان للغرب، يعاكس حقيقة الحياة، التي برهنت عليها هذه المحنة. فلم نجد لدى أيّ دولة غربية مبادرة واحدة، تضع فيها من حسابها ورصيدها إمكانات في خطوات إسعافية غير ربحية، تبغي المساعدة. وكلّ ما عُرض علينا انطوى في ثناياه وفي حقيقته على روح الاستغلال والربح وانتهاز الفرص، التي هي روح النهج السياسي والاقتصادي والمالي في الغرب الاستعماري، الذي لا تحفّزه إلا مشاريع الهيمنة على الأسواق والموارد، واستثمار المواقع الإقليمية المؤثّرة في محيطها لمصلحة خطط الهيمنة والنهب. ولم نلقَ في هذه المحنة من أيّ دولة غربية، بدءً من فرنسا، سوى النفاق والمساعدات المقرونة بدفاتر الشرط، وهي ليست هبات مجانية، ولا اتفاقات غير ربحية. ونتحدى جميع أذناب الغرب في لبنان أن يأتونا بعرض يشبه ما تقدّمه الدول الشقيقة والصديقة المخلصة من عروض، وأولها النموذج العراقي، الذي أشرنا اليه، والذي يحقّق من غير منّة مصلحة وكرامة لبنان الشعب والدولة، ويقدّمها في إطار صيغة للتعاون، تحفظ الكرامة وتحمي المصير.
على جميع “الجهابذة”، الذين يقدّمون في إعلامنا نموذجا مخزيا للانخلاع الثقافي والارتهان لاستلاب الهيمنة وعقد التبعية للغرب الاستعماري، أن ينقّبوا ويقدّموا لنا ولو شبهة مبادرة أو فكرة تحاكي ما لمسناه من الأشقّاء، سواء ما كنّا كدولة في مستوى التفاعل معه، أو ما أعرضت عنه حكومتنا وأدارت له الظهر، تلبية للمشيئة الغربية والأميركية على حساب لبنان أو خشية من غضب. على الرغم من أن الغرب، الذي يحكم قبضته على العقول كما على الأسواق، يتعايش مع الشراكات والعلاقات، التي تحصّنها الإرادات الحرة، وهو لا يملك شيئا لقهر من يجسّدون مصالح بلدانهم. وعلى مَن يبثّون الرعب والشائعات الخبيثة ضد التوجّه شرقا أن يخرسوا، ويتركوا البلد يبحث عن الفرص، ولا يهدر مزيدا من الوقت في انتظار إغاثة لن تأتي من مراكز الهيمنة والنهب، التي لم تكن يوما مجّانية في التعامل مع لبنان أو ندية في شراكاتها على صعيد العالم الثالث. بل هي تبحث عن الأتباع والخاضعين لأنها مراكز هيمنة ونهب. لقد آن الأوان لنتحرّر من استلابات الارتهان والتبعية، وأن نطلق تفكيرا جديدا، يليق ببلد المقاومة والعزّة، وبشعب عظيم وطموح، لديه كلّ الطاقة المطلوبة للتحوّل الى قوة منتجة وخلاقة في هذا الشرق.