تعطيل قناة السويس ينعش مخططات مشبوهة لاستبدالها: د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
“السيطرة على التجارة البحرية عنصر اساسي للنصر في الحرب”، والقوى البحرية عادةً تتفوّق على قوى البر. مبدأ أرساه ضابط البحرية الأميركي والمؤرخ ألفرد ماهان قبل الحرب العالمية الأولى، وأضحى كتابه “تأثير القوة البحرية في التاريخ” مادة ثابتة في دراسات الكليات الحربية العالمية. وقد تحققت نبوءته في العام 1911 بالتحذير من أنّ تنامي قوة ألمانيا الصناعية سيقود إلى صراع دولي، استناداً لقناعته بأنّ ألمانيا لا تملك سوى بحر الشمال، وستسعى لمد نفوذها على مناطق أخرى.
نظراً إلى جغرافية السواحل الغربية لأميركا الشمالية، فإنّ روسيا هي الأقرب إليها مسافة من ناحية ولاية ألاسكا، تليها الصين واليابان، ما يعزّز تبلور استراتيجية الولايات المتحدة الأميركية الراهنة في معاداة الصين وروسيا منذ نهاية ولاية الرئيس جورج بوش الإبن، وهي تسعى جاهدة، ليس لتطويق “تمدد الصين” فحسب، بل للحيلولة دون تشكل وحدة جيوسياسية في آسيا تنافسها ككتلة موحدة.
الحدث النادر الذي أدى إلى تعطيل الملاحة في قناة السويس، نتيجة توقف سفينة الحاويات العملاقة “إيفر غيفن” وغرسها في مياه القناة بضفتيها، بحمولة ومواصفات تجاوزت المعايير الدولية المنصوص عليها في “سويس ماكس” كشرط لعبور القناة، اثار بعض التكهّنات حول ما اذا كان الحادث مدبراً، وليس جنوحاً، بعد تعرض المنطقة لعاصفة رملية شديدة الرياح.
وسرت تكهنات حول فكرة الترويج لاستحداث قناة بديلة موازية لقناة السويس، إذ أدى اغلاق القناة الى خسارة مباشرة لعائدات المرور التي تدر حوالي 400 مليون دولار يوميا إلى الخزانة المصرية. وقد تعطّلت حركة مرور السفن من جانبي منافذ القناة، وتسمرّت عشرات السفن تنتظر دورها في العبور.
تعطيل حركة الملاحة في قناة السويس كقرار سياسيّ تتّخذه دولة/دول أخرى، يعود إلى ما سُمي بأزمة السويس في العام 1956، عقب تأميمها كشركة مساهمة مصرية من قبل الرئيس جمال عبد الناصر. الوثائق المتوفرّة تشير بوضوح إلى تبني رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، سير أنثوني إيدن، خطّة اعتراض الملاحة في القناة بطلبه من قواته المسلّحة إرسال 50 سفينة تتوزع على مداخل القناة الشمالية والجنوبية “لإحراج” قيادة الثورة المصرية بعدم قدرتها على تسيير الملاحة، ما يستدعي إشرافاً دولياٌ عليها يستثني مصر أو أي دولة عربية أخرى (إيمون هاميلتون، رسالة أطروحة ماجستير في جامعة بيرمنغهام البريطانية، حزيران 2015، ص 99). كما أغلقت القناة لعدة سنوات بعد حرب عام 1967.
الباحثة الاستراتيجية البريطانية، كارولين روز، أكّدت تلك المعلومة في جملة تغريدات لها يوم 25 آذار/مارس الجاري، قائلة: “لا يتحدّث أحد حول إغلاق سفينة “إيفر غيفن” لقناة السويس بأنّه حلم تحقّق أخيراً لرئيس الوزراء البريطاني آنثوني إيدن”. وأضافت أنّ إيدن كان “يرمي إلى إنجاز حصار غير عسكري لقناة السويس عبر توظيف السفن التجارية وغيرها لسد حركة المرور وتعزيزها بسفن حربية على مداخلها في أيلول/سبتمبر 1956، وذلك قبل توصله إلى خطة شن غزوة برمائية لمصر بالاشتراك مع باريس وتل ابيب“.
إنّ الحادثتين في قناة السويس، بفاصل 64 عاماً، ليستا نسخة طبق الأصل لتغيّر الظروف والتوازنات الدولية والإقليمية، بل تؤشران إلى الأهمية الجيوستراتيجية للمر المائي الحيوي خلال حقبات تاريخية متعدّدة وما يتهدّده من مخاطر وتحديات ذات ترددات عالمية.
بَعد مصر والدول التي تستورد نفط الخليج، مثل الصين والهند، تعتبر سوريا أحد أبرز المتضررين من إغلاق القناة في الظرف الراهن، إذ سارعت حكومتها إلى توجيه تعميم على الشعب السوري تخطره بتأخّر وصول مشتقات المحروقات التي تعدّ بأمس الحاجة إليها والعالقة في ممر قناة السويس. أما في مصر، فلا شك أن الحادثة أعادت مناقشة الحكمة من قرار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي التنازل عن السيادة المصرية عن جزيرتي تيران وصنافير في مضائق تيران المصرية، الأقرب إلى ساحل شبه جزيرة سيناء، والتي تعد بوابة خليج العقبة، لمصلحة السعودية.
مجلس الدولة المصري، وهو أعلى هيئة قضائية إدارية، “ألغى قرار منح تيران وصنافير للسعودية” (21 حزيران 2016)، بيد أنّ القرار السياسي الأعلى للرئاسة المصرية لم يلتفت إليه أو يعمل بموجبه. وبهذا تحوّل الممر البحريّ إلى ممرٍ دوليّ، وليس مصرياً، ينهي تحكّم القاهرة بحركة الملاحة المتجهة لميناء إيلات/أم الرشراش.
الإسهاب في خلفية التخلّي المصري عن سيادة مصر على إراضيها، ليس بالأهمية ذاتها لما ينبغي التركيز عليه من مخططات استراتيجية معادية مهّدت لمناخ التنازل الطوعي المتدرج عن سيناء، التي تحتلّ حيزاً متقدماً في وعي الشعب المصري. وقد أوجزه د. جمال حمدان قائلا: “سيناء ليست صندوقاً من الرمال، بل صندوق من الذهب” بثرواتها وموقعها (كتاب “شخصية مصر”)، وأفرد لها كتاباً خاصاً بعنوان “سيناء في الاستراتيجية والجغرافيا”، لا يؤكد فيه عروبتها فحسب، بل أهميتها الجيوسياسية في الأمن المصري أيضاً، إذ إنها “لا تحدد مصير مصر وحدها، ولكن العرب أجمعين“.
نظرياً، لا يجد المرء جواباً شافياً على ترابط “تعطيل” قناة السويس مع المخطّطات الاستراتيجية الأميركية في بعدها الدولي ، وليس الاقليمي فحسب، بيد أنّ الوقائع تدحض فصل المسائل الجيوسياسية عن بعضها بعضاً في المفهوم الأميركي الرسمي.
أولى المؤشرات على ذلك الترابط جاءت عبر تقديرات الاضرار الناجمة عن إغلاق القناة على مخططات انتشار القوات العسكرية الأميركية في المياه الآسيوية مقابل سواحل الصين، وخصوصاً أن ّحاملة الطائرات العملاقة “يو أس أس آيزنهاور” تجوب مياه البحر المتوسط استعداداً لعبور قناة السويس للانضمام إلى المناورات الحربية الأميركية في بحر العرب.
تنبغي الإشارة إلى أولوية عبور القناة للقطع العسكرية الأميركية منذ اتفاقيات كامب ديفيد، 1979، وجرى تحديثها عدة مرات منذئذ في الرئاسات المصرية المتعاقبة. وعليه، عبور القطع البحرية الأميركية القناة، ذهاباً أو اياباً، يتقدم على كل حركة الملاحة الجارية بأكملها.
وأعرب البنتاغون عن قلقه رسمياً من أن ّ”إغلاق قناة السويس سيؤثر على حركة السفن العسكرية الأميركية”، (28/آذار/مارس الجاري)، وأوكل للحاملة “آيزنهاور” مهمة “تعزيز” التواجد العسكري الأميركي في بحر الصين الجنوبي في فترة أعمال الصيانة والتحديث الجارية على حاملة الطائرات “يو أس أس رونالد ريغان” في مياه اليابان.
يضاف إلى ما تقدّم هدف الحرب والعدوان على اليمن في سياق السيطرة الأميركية، عبر السعودية والإمارات، على مضيق باب المندب، وتحويل البحر الأحمر على جانبي شواطئه إلى منطقة نفوذ أميركية، وامتدادا “إسرائيلية“.
كما لا يجوز إغفال تكرار اصطدام السفن العسكرية الأميركية بالقوارب التجارية في مناطق ومضائق متعددة في العالم، ضمن سياق السعي لبسط النفوذ السياسي الاستراتيجي. أحد أبرز الأمثلة حادثة “اصطدام” بين واحدة من أحدث حاملات الطائرات الأميركية “يو أس أس جون ماكين” مع سفينة تجارية في مضيق ملقا، بتاريخ 20 آب/أغسطس 2017، أسفر عن مقتل 10 بحارة أميركيين، وتم تحميل المسؤولية لربّان السفينة الحربية “ولتدني مستويات تدريب طاقمها” بعد إجراءات التحقيق في الحادث.
في حقيقة الأمر ليس هناك مفاضلة في أولوية مضيق بحري عالمي على آخر في سياق الاستراتيجية الكونية الأميركية، لكن “مضيق هرمز” يحتل درجة عالية في سلم الأولويات، نظراً إلى طبيعة تعديل اولويات السياسة والاستراتيجية الأميركية في الظرف الراهن تحديدا، وخصوصاً أنه أضحى ممراً لنقل نحو 35% من احتياجات النفط العالمي، بنسبة تذهب 85% منها إلى الأسواق الآسيوية. ويشهد مضيق هرمز حالياً “حوادث” انفجارات متبادلة بين سفن “اسرائيلية” وأخرى إيرانية، ويقف الطرف الأميركي مراقباً يتحيّن الفرصة للتدخّل إن تطلّب الأمر.
التدقيق في الصّور التجارية المنشورة عن “أزمة السير المعطل” في قناة السويس، مضافاً إليها بعض التصريحات المصرية الرسمية، وأرضيتها التحلّل من المسؤولية، وكذلك النظرة الشاملة للتغيرات الدولية وسلوك الولايات المتحدة في بسط هيمنتها، وتوكيلها “الكيان الإسرائيلي” بمهام الهيمنة الإقليمية، تقودنا كلّها مجتمعةً إلى ترجيح التفكير في بدائل وافتعال أزمة تضع “حل الممرات البديلة” على رأس الأولويات، من بينها خطوط سكك حديدية لربط الخليج بميناء حيفا.
لم تخفِ “إسرائيل” أهدافها في السّيطرة والهيمنة على ملاحة البحر الأحمر برمّته، وطرحت مشروع “قناة البحرين” بين البحر الأبيض والبحر الميت مع الأردن عقب توقيع اتفاقية وادي عربة، أرفقته بمشروع موازٍ لشق قناة تربط ميناء إيلات/أم الرشراش بالبحر الأبيض المتوسط، أطلقت عليه مشروع “قناة بن غوريون“.
في الخلفية، يقع مشروع هيرتزل لاستيطان سيناء بدءاً من العام 1898، والذي قوبل بالجفاء من قبل السلطان العثماني، وانتظر إنضاجه حتى العام 1902، متوجّهاً إلى بريطانيا ولقاء وزير المستعمرات البريطانية آنذاك، جوزيف تشامبرلين، الذي وعد بالسماح لليهود بـ”إقامة مستوطنات في منطقة العريش وسيناء” كنواة للدولة اليهودية (ليونارد ستاين، “إعلان بلفور”، 1961، ص 25). تفاعل الجانب البريطاني مع المشروع ليضمن حماية قناة السويس من الشرق، وخصوصاً ألمانيا، التي صعّدت من نفوذها لدى السلطان العثماني.
وكشفت النّشرة الإلكترونيّة الأميركيّة “بيزنيس إنسايدر” حديثاً عما أسمته مذكّرة أميركية للعام 1963 أصدرها “مختبر لورانس ليفرمور الوطني” التابع لوزارة الطاقة الأميركية، و”رفعت عنها السريّة”. وقد تضمنت استخدام مئات من القنابل النووية، بقوة 2 ميغا طن، لشق قناة بديلة عن السويس عبر صحراء النقب “على مستوى البحر بطول 160 ميلاً عبر إسرائيل” (25 آذار/مارس الجاري).
أما الإشارة إلى استخدام تفجيرات نووية لشق القناة، فقد جاءت لتخفيف كلفة الحفر بالوسائل المتاحة لفتح مسار عبر صحراء النقب يربط البحر المتوسط بخليج العقبة. وأوضحت المذكرة بشكل جليّ أنّ القناة الجديدة “ستكون بديلاً استراتيجياً عن قناة السويس“.
استمرّت وتيرة التصريحات “الإسرائيلية” مبشرِّة بالقناة البديلة. ونشرت صحيفة “هآرتس” في منتصف العام 2017 مقالاً بقلم “بلير كنينغهام” حول المشروع البديل الذي يبلغ طوله 300 كلم “لربط إيلات على البحر الأحمر مع ميناء أشدود (أسدود بالعربية) على البحر المتوسط، كبديل عن قناة السويس“.
في ضوء ما تقدّم من معطيات وتسلسل تاريخي يستهدف خنق قناة السويس وما تتعرض له راهناً من إغلاق إلزامي، وبقطع النظر عن طبيعة الأسباب، أكانت عرضية أم مدبّرة، نستطيع القول إن المشروع “الإسرائيلي” البديل أُنضج إعلامياً كجائزة لتل أبيب لضمان هيمنتها على الإقليم والتحكم بممر مائي بالغ الأهمية في حركة التجارة البحرية العالمية.
في علم الطبوغرافيا، تعد المنطقة صخرية قاحلة، وتتميز بحدة ارتفاعاتها، قبل أن تنحدر بقوة بالقرب من البحر الميت، ثم ترتفع مرة أخرى قبل الوصول إلى البحر المتوسط. ممر القناة البديلة يبدأ عند العقبة ومنسوب البحر يساوي صفراً (موازٍ لسطح البحر)، ويرتفع شمالاً إلى نحو 159 متراً، ومن ثم يصعد مجدداً إلى نحو 339 متراً، قبل أن ينحدر إلى جنوب البحر الميت إلى عمق 266 متراً تحت سطح البحر، ثم يرتفع مجدداً لنحو 642 متراً عن سطح البحر، أي أن الفارق الإجمالي في الارتفاعات يصل إلى نحو 1000 متر، (المهندس المصري ومحاضر في جامعة “إم آي تي” نايل الشافعي، 28 آذار/مارس 2021(.
الحقائق العلمية الصارمة لا تدعم إمكانية إنشاء ممر بحري بديل لقناة السويس، خط العقبة عسقلان، على الناحية المقابلة من البحر الأحمر، وأهم أسبابها الطبيعة الطبوغرافية المعقدة، كما ورد. ومن المرجّح أن الحملة لإنشاء بديل من قناة السويس لا تعدو كونها فقاعات إعلامية تحدث ضغوطاً نفسية وارتباكاً في الجانب المصري.