تلويحٌ بالانسحاب من «اتفاقية مونترو»: هل يغامر إردوغان بالخطوط الحُمر؟: محمد نور الدين
جاء تهديد رئيس البرلمان التركي، مصطفى شنطوب، بالانسحاب من «اتفاقية مونترو» المُتمِّمة لـ«اتفاقية لوزان»، ليعزّز التوقٌّعات بنيّة الرئيس رجب طيب إردوغان الذهاب بعيداً في مسألة تجاوُز إرث أتاتورك. لكن المسّ بالخطوط الاستراتيجية الحمر، مِن مِثل الاتفاقية المذكورة التي وقّعتها تركيا لضمان سيادتها على أراضيها، يعني غياب الأُسس القانونية لإدارة المضائق، وهو ما يُعدُّ هدية كبرى للدول العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، الباحثة عن مطامع لها في تركيا
في ذروة انشغال تركيا بالانسحاب من «اتفاقية إسطنبول» لمكافحة العنف ضدّ المرأة وداخل العائلة، كان رئيس البرلمان، مصطفى شنطوب، يطلق تصريحاً انفجر كقنبلة في مختلف الأوساط التي اعتادت أن لا يكون هناك دخان بلا نار. لكن الدخان الحالي مسّ خطوطاً استراتيجية حمراً بالنسبة إلى الأمن القومي التركي. إذ قال شنطوب: «إن رئيس الجمهورية مثلما انسحب من اتفاقية اسطنبول بقرار رئاسي، يمكنه أن ينسحب من اتفاقية مونترو، كما من كلّ الاتفاقيات الدولية الأخرى». لم يصدّق الرأي العام أن يطال هذا الكلام إحدى الاتفاقيات الأكثر حساسية في تاريخ تركيا الحديث، أي «اتفاقية مونترو»، وأن المتحدّث ليس سوى رئيس البرلمان.
أحد أكثر الأشخاص خبرةً بالقوانين البحرية، الأميرال المتقاعد جيم غوردينيز، يقول إنه «إذا وافقنا على أن اتفاقية لوزان هي فخر الجمهورية، فإن اتفاقية مونترو هي الأكثر إتماماً للوزان». ويُذكّر بأن الولايات المتحدة كانت تريد، منذ القِدَم، أن تدخل البحر الأسود، لكن «اتفاقية مونترو» حالت دون ذلك. وفي حال الانسحاب منها، يتساءل السفير المتقاعد، أونور أويمين، «على أيّ أسس قانونية ستُدار المضائق (البوسفور والدردنيل)؟ لحظت اتفاقية لوزان نزع سلاح المضائق، وقد تشكَّلت لجنة لذلك. فهل بهذا النظام السابق ستُدار المضائق؟ لقد وقّعت تركيا اتفاقية مونترو لضمان سيادتها على أراضيها. كانت انتصاراً كبيراً. وليس من بلد، باستثناء الولايات المتحدة، غير مسرور من ذلك. فلماذا نأتي لمناقشة هذه الاتفاقية من وقت إلى آخر؟». لاقت تصريحات شنطوب «ردوداً كبيرة ومعظمها محقّ، لأن الموضوع غير مرتبط بالسيادة الوطنية وصلاحيات رئيس البرلمان فحسب، بل أيضاً بأبعاد قانونية وسياسية وتاريخية ودبلوماسية واستراتيجية وجيوسياسية وبالأمن الوطني. ورئيس البرلمان آخر شخص يمكنه التحدُّث وفتح النقاش حول اتفاقية مونترو التي تخصّ ثمانية مليارات شخص حول العالم»، بحسب الكاتب باريش دوستر الذي يضيف أن «موضوع مونترو مهمّ جداً بالنسبة إلى تركيا ولا تراجُع عنه، كما أنه حسّاس جداً بالنسبة إلى روسيا».
لكن ليس سِرّاً، يقول دوستر، أن «الولايات المتحدة التي أبقتها الاتفاقية خارج الموضوع، تحاول أن تخرقها أو أن تجعلها أكثر مرونة، وسلطة إردوغان بعدم تعاطيها مع مونترو بالحساسية التي تتطلّبها، إنّما تُضاعف القلق في شأن مشروع شقّ قناة إسطنبول (الموازية لمضيق البوسفور). فاتفاقية مونترو التي لا تقلّ أهمية عن اتفاقية لوزان، هي من الخطوط الحمر لتركيا، والتي لا ضرورة للنقاش حولها، ولا نعرف لماذا النقاش حولها وهذا هو أصل الموضوع، لأن السلطة تصف كلّ موضوع يناقَش على أنه مسألة مصيرية. حتى الانتخابات البلدية تصفها بالمصيرية. لذلك، توجد فائدة من تعريف الموضوع بالمصيري لمناقشة كلمات رئيس البرلمان حول مونترو». وبحسب الكاتب نفسه، فإنه «سيكون من الخطأ أن نرى كلّ مسألة وقَضية على أنها مصيرية، وأن نُقاربها بالتالي من زاوية أمنية. هذه ليست مقاربة صحّية يمكن الاستمرار بها. فاعتبار كلّ موضوع مصيرياً إنما يهمّش عدداً كبيراً من الموضوعات الأخرى التي يمكن أن تكون مصيرية فعلاً، ويقلِّل من أهميّتها». وينهي دوستر مقالته في «جمهورييت» قائلاً: «لكلّ أُمَّة قضايا مصيرية يمكن أن تكون واحدة أو اثنتين أو عشرة. ولكلّ أُمَّة أعداء قد لا يتخطّون أصابع اليدين.
تحاول الولايات المتحدة التي بقيت خارج «اتفاقية مونترو» أن تخرقها أو أن تجعلها أكثر مرونة
ولا يمكن أن تكون هناك قضايا مصيرية بالمئات. وإذا كانت هذه هي الحال، فهذا يعني إمّا أن هناك خطأ بالتعريف، أو أن نيّات المعرِّف مغرضة. إن التهديدات الموجَّهة إلى استقلال الأمّة ووحدة أراضيها وسيادتها ووحدتها السياسية هي قضايا مصيرية. كما يمكن تصنيف قضايا مِثل ارتفاع نِسب البطالة، وارتباط الزراعة والأمن الغذائي بالخارج، والارتباط بالخارج في الصناعات الدفاعية، قضايا مصيرية. لكن عدم الإكثار من القضايا المصيرية يتطلّب إظهار المسؤولين حساسية فائقة وعظيمة. وكلّ أمر خلاف ذلك لا يفيد سوى الإكثار من المشكلات».
ويعرب النائب مصطفى بالباي، من جهته، في مقالة في «جمهورييت»، عن خشيته من أن يضيع عمل البرلمان في عهد رئيسه شنطوب، كما ضاعت رئاسة الحكومة، للمرّة الأولى، منذ عهد السلاجقة. وهذا ينطبق على ما يمكن تَصوّره من أن إردوغان قد سأل شنطوب: «هل يمكن القول بعد الانسحاب من اتفاقية إسطنبول إنني فسخْت اتفاقية مونترو؟». وهو ما يتبادر إلى الذهن مع حديث شنطوب عن اتفاقية لا يمكن لأحد أن يفسخها. ولكن كلام هذا الأخير يطرح السؤال التالي: هل يمكن السفن العالمية التي تَعبر البوسفور وفقاً لمونترو، أن تطلب عبور قناة إسطنبول من دون شروط؟. بحسب بالباي: «منذ أن أصبحت إدارة المضائق بيد السلطان محمد الفاتح بمفرده، بدأت المطالب الروسية ومن ثمّ مطالب دول أوروبية أخرى بالحصول على مكاسب من المرور عبر المضائق. وكان مجيء سفينتَين ألمانيتَين إلى البوسفور عام 1914 بداية دخول العثمانيين الحرب. لقد دخل العثمانيون الحرب بسبب المضائق. وحروب الدردنيل (تشانق قلعه) كانت حول الحاكمية على الطريق المائي. وباتفاقية الهدنة في موندروس، احتلّ الحلفاء المضائق. لقد فعلت إنكلترا كلّ ما في وسعها لتُسيطر على المضائق. وعندما استولى مصطفى كمال على إزمير في 9 أيلول/ سبتمبر 1922، كان لسان حال بريطانيا: يكفي مصطفى كمال! لتؤسِّس دولة أنقرة، أمّا المضائق فتكون لنا نحن الإنكليز. لكن مصطفى كمال أمَرَ بعد يوم واحد بتطويق تراقيا والسيطرة عليها. وفي اتفاقية لوزان، طال الحديث عن المضائق والاحتكارات، ولم يتنازل عن أيٍّ منهما، وبَقي مصرّاً إلى أن وُقِّعت اتفاقية مونترو في عام 1936، والتي أعادت السيادة كاملة إلى تركيا. ومن خلالها، اكتملت حرب التحرير الوطنية».
يوضح العقيد البحري المتقاعد، عصمت هرغونشين، الأهمية الاستراتيجية لمضيقَي البوسفور والدردنيل، اللذين كانت الدول الإمبريالية تضعهما نصب عينيها وتتصارع عليها. يقول هرغونشين إنه «منذ عام 1774، تتصارع الدول الكبرى على النفوذ في المضائق ذات الأهمية الاستراتيجية. كان البحر المتوسط والمضائق وبحر إيجه تحت سيطرة العثمانيين الكاملة، إلى أن وُقّعت معاهدة قاينارجه بين العثمانيين والروس، والتي اعترفت بحقّ المراكب الروسية في المرور بِحُرية في المضائق. وأضيفت إنكلترا إليهما في عام 1840. كانت اتفاقية لوزان محطّة مهمّة في الطريق إلى اتفاقية مونترو التي جعلت السيادة كاملة لتركيا على المضائق، ووضعت شروطاً على مرور سفن الدول الأخرى، ولا سيما المتشاطئة على البحر الأسود أو تلك التي خارجه». وحتى الآن، يضيف العقيد، فإن «اتفاقية مونترو» تَحفظ السلام العالمي، لذا تُعدُّ حمايتها ضرورةً كبرى للأمن القومي التركي.
ويعتبر الكاتب المعروف رحمي طوران، بدوره، في صحيفة «سوزجي»، أن «رئيس البرلمان شخصية يُفترض بها أن لا تتحدّث عن شيء إلّا بعد أن تكون مالكة لمعلومات مهمّة. وحديثه عن أن إردوغان يمكن أن ينسحب من الاتفاقية يُعدُّ هدية كبرى للدول العظمى الباحثة عن مطامع لها في تركيا». ويتساءل: «هل يعني الانسحاب من مونترو أن رئيس الجمهورية يستطيع الانسحاب من لوزان؟ إذا كان ذلك، فهذا يعني إطلاق تركيا الرصاص على قدميها. في حين أن مصائر الدول يجب أن لا ترتبط بمزاج شخص واحد. صحيح أن في تركيا نظام الشخص الواحد، لكن هل يمكن بإمضاء واحد اتّخاذ قرار مهمّ يتّصل بالأمن القومي؟ في ذلك الحين، ليس من وظيفة تبقى للبرلمان ويجب إلغاؤه. بل إن الواقع يستدعي من شنطوب الاستقالة من منصبه بدلاً من التصريح بمواقف من أجل إرضاء إردوغان». ويرى وزير العدل السابق، حكمت سامي تورك، من جانبه، أن «رئيس الجمهورية ليس له الحقّ في إلغاء اتفاقيات مثل مونترو أو لوزان. وإذا كان له الحقّ، فإن العتمة الكاملة تنتظر مستقبل تركيا»، فيما يدعو نائب رئيس «الحزب الجيّد»، آيتون تشيراي، رئيس البرلمان إلى الاستقالة «لأنه أخَلّ بالدستور ولم يحافظ على حقوق البرلمان».
(الاخبار)