كلفة الانتظار في حلقة مفرغة
غالب قنديل
يبدو البلد في ثلاجة انتظار لا يفهم الناس جدواها، بينما الأزمات تتفاقم وتضغط في جميع الاتجاهات، ويشغل بال المواطن العادي كثير من الهموم والأسئلة المصيرية من غير أن يجد لها أجوبة واضحة أو محدّدة. فتبدو في نظر الناس أحوال الواقع السياسي أشبه بجدال بيزنطة، بينما الكارثة على الأبواب. فليس في مفردات الجدل وزجليات الصراع السياسي أي فكرة مجدية، تتعلق بتلمّس المخارج العملية من حلقة الكارثة والنزيف. بل إن جميع المقترحات المتداولة تدور في حلقات اجترار وصفات إدارة الأزمة وإدمان الاستدانة والتعويل على الخارج.
أولا: إن هذه السلبية الخطيرة، التي تميّز الواقع السياسي والشعبي معا، تعزّز حالة لحس المبرد، وتدفع البلد في متاهة استنزاف متواصل، فتسدّ جميع الأبواب أمام فرص المبادرة المكنة، في حدّها الأدنى، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، واستئناف دورة الحياة العادية بدلا من الدوامة الحاضرة. ولا شكّ أن العتَلة الرئيسية في مقاربة هذا المأزق، تتركّز حول الفراغ الحكومي المتمادي، وغياب المؤسسة التنفيذية الأولى في نظامنا السياسي في ظروف انهيار كارثي، يتطلّب في حدّه الأدنى احتواء المأزق، ومنع السقوط الى الهاوية السحيقة. ولا يفيد في مثل هذه الحال رهان المسؤولين على تقطيع الوقت وتقادم الزمن، وهم يعلمون حجم الكلفة التي يدفها البلد من تمادي الانهيار وغياب المبادرات.
وما كان ينقص الكارثة الاقتصادية والمالية والمعيشية إلا جائحة كورونا، لتزيد من فجيعة الناس ومصائبهم في ظل سلطة مربكة، يرتبط بأدائها كلّ شأن حياتي ومعيشي وصحي في يومياتنا الصعبة والقاسية. وهذه الدوامة تفترض، بحدّها الأدنى، أن تبادر الجهات المعنية من موقع مسؤوليتها الى تلمّس المخارج العاجلة، وأولها تشكيل حكومة، تنهي حالة الفراغ في السلطة التنفيذية. ويعلم المسؤولون أن كلفة الفراغ الممتد، هي المزيد من الخسائر التي يدفع ثمنها جميع اللبنانيين من مستوى عيشهم.
ثانيا: لا نتحدّث عن مشروع التحدّي التاريخي لبناء قوة اقتصادية، فلبنان يطوي اليوم مع شعبه طموحات وأحلاما كثيرة، تردّدت سابقا حول “معجزته” الاقتصادية وقدرته على التحوّل الى قوة فاعلة ومؤثّرة في محيطه، وواعدة بنموّها الاقتصادي وشبكة علاقاتها. فالكارثة الحاصلة تعدِم أيّ طموح من هذا النوع. وباتت جميع الأحلام مؤجّلة، وتواضع الرهان الى حدود الخروج من النفق الخطير. وأبسط الأمور التي على المسؤلين والقادة التفكير بها، هو امتلاك إرادة العمل الجدي لتأمين القدرة على الاستمرار والصمود لشعبهم وبلدهم. ويعلم الناس أن ما من جهة أو حزب أو زعيم قادر على اجتراح معجزة تنهي هذه الدوامة. خصوصا وأن طبيعة نظامنا السياسي تحتّم تبلور إرادة جماعية، تمثّل، في حدّها الأدنى، غالبية مؤهلة لبلورة إرادة مشتركة. وبالتالي فإن ما يريده اللبنانيون بات متواضعا جدا، وقد أجّل الجميع طموحاتهم التاريخية. فالمطلوب تأمين استمرارية الحياة وتجاوز الكارثة الخطيرة. وهذا أمر يتفق السياسون على أنه ليس معجزة. ولم نتابع اقتراحات لخطط أو مشاريع قيد النقاش خارج إطار إدارة الأزمة، أو من خارج سلّة خطط الاستدانة والبحث عن المعونات. فلا مشاريع ولا برامج تتجه الى النقاش في سبل أخرى، يمكن العمل عليها.
ثالثا: إن وقف دوامة التآكل يتطلّب العمل السريع على إنهاء الفراغ الحكومي لأن المعالجة في حدود احتواء الأزمة وحصر الأضرار، تستدعي وجود مجلس للوزراء كامل القوام الدستوري والسياسي، وبالحدّ الأدنى من معادلات الوفاق الداخلي، التي تضمن دعم وتجاوب أكثرية شعبية ونيابية مع الحكومة الجديدة. وهذا أمر ميسور ومتوافر، لكن الغائب، هو المبادرات المطلوبة لتوليد الحكومة العتيدة، وقطع مسار الانزلاق في هوة الفراغ.
إن نوعا من العبثية السياسية يعتور بعض السلوكيات، وللأسف، من قبل مواقع قيادية ومسؤولة، يُفترض أن يكون قلبها على البلد والناس وليس في مكان آخر، وأن ينصبّ عقلها على كيفية العمل الحثيث ليل نهار لإنهاء الفراغ في السلطة التنفيذية، ومباشرة العمل فورا في احتواء الأزمة. فلا ننتظر معجزات، ولا حلولا سحرية، وبكل واقعية نقول: إن لجم الانهيار والتقاط الأنفاس والبدء بمعالجة المشاكل والأعراض الناتجة عنه في البلد سيكون بذاته إنجازا كبيرا ووطنيا، يقدّر اللبنانيون جهود جميع المشاركين في تحقيقه.
كلمة أخيرة: إن أحدا منّا لن يفهم أو يغفر أي استهتار أو إهمال في مثل هذه الظروف. فالكارثة الكبرى تقرع الأبواب، ولاتَ ساعةَ مندمِ.