فصل الخطاب: حرب باردة أ.د. بثينة شعبان
تابعت خطاب الرئيس جو بايدن بدقة وحاولت من خلاله أن أفهم توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة وماهو المتوقع منها في المستقبل القريب والمتوسط. وبعد أن حاولت تفسير رسائله الموجهة إلى أوروبا وحلف الناتو والتي عمدت في مجملها إلى إصلاح العلاقات عبر الأطلسي من الضرر الذي ألحقه بها ترامب، محاولاً استعادة تأثير الولايات المتحدة من خلال التعاضد مع الحلفاء واعتبار أي عدوان على دولة في حلف شمال الأطلسي عدواناً على دول الحلف كافة وفي هذا الإطار نفهم دوافع عودته إلى اتفاقية باريس للمناخ.
بعدها دهشت من تحذيره من العودة إلى “تكتلات الحرب الباردة” خاصة وأن تجاوبه مع ما يريده الحلفاء كان متلازماً مع هجوم غير لائق على روسيا وتحذير شديد اللهجة للصين ووعد بالعمل ضد الاثنين معاً. ولا يخفى على أحد أن الموضوعين مترابطان ترابطاً وثيقاً وأن إعادة العلاقات عبر الأطلسي وتمتين أواصر الثقة والعمل مع دول الناتو والدول الغربية تهدف أول ما تهدف إلى إعادة صياغة الكتلة الغربية بطريقة تمكّنها من الوقوف في وجه العلاقات بين روسيا وأوروبا وفي مواجهة التحدي الاقتصادي مع الصين. والغطاء لكل هذه التحديات هو الادعاء بأن هذه الكتلة الغربية هي راعية الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم وأن النظم الأخرى يعتريها الفساد وتوق شعوبها للانضمام إلى الدول الديمقراطية الغربية. وعلّ أهم جملة نطق بها بايدن في هذا المجال هي أن ” الولايات المتحدة ستؤدي دورها في الحلف وسنواجه التحديات معاً ” .
وحتى فيما يخصّ إيران فقد وضع المحادثات مع أوروبا بشأن الاتفاق خطوة أولى باتجاه رفع العقوبات؛ أي إعادة اللحمة إلى القرار الأميركي الأوروبي بهذا الشأن وإعادة الإدارة الأمريكية الواحدة لهذا القرار. ولكنّ اللافت في موقفه من إيران هو أن الاتفاق ليس كل ما يشغل بال بايدن بل نشاطات إيران في المنطقة؛ فبينما دعا إلى التفاوض بشأن برنامج إيران النووي كان أكثر حسماً في موضوع تواجد إيران في المنطقة إذ قال: “علينا العمل للحدّ من أنشطتها في المنطقة”.
وجوهر القول هو أن بايدن سمح لنفسه أن يعبّر عمّا لم يعبّر عنه أحد في روسيا؛ فبعد يوم من تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن روسيا تريد علاقات جيدة مع أوروبا اتهم بايدن الرئيس الروسي، بوتين، بأنه يسعى إلى مواجهة النظام الأوروبي.
الهدف الأساس من هذا الخطاب هو إعادة أوروبا ودول الحلف الأطلسي إلى مظلّة القرار الأميركي والاستقواء بالجميع لعودة مفهوم الأسرة الدولية التي تعني “الغرب” حصراً وتبرّر مواجهة أو محاسبة أو معاقبة كل من لا يؤمن بهذه الديمقراطية الغربية ولا يسعى لأن يكون على شاكلتها في بلاده حيثما كانت هذه البلاد ومهما اختلفت طبيعتها وتاريخها وثقافتها وهويتها عن النظم الغربية. أي أن بايدن يبشّر بسنوات عجاف ويحاول لملمة الخيوط عبر الأطلسي ليس من أجل نشر العدل والسلام في العالم ولكن من أجل إعادة قبضة الهيمنة الغربية على القرار الدولي وإقناع العالم بأن من سار معنا فهو آمن ومن لم يسر معنا فإن مصيره الخيبة والفشل. ماذا يعني هذا بالنسبة للدول التي تنتظر الإدارة الأمريكية الجديدة لتعلم كيف سيؤثر هذا التغيير على مصيرها وعلى توجهاتها المستقبلية؟ وماذا يعني هذا الخطاب بالنسبة لمنطقتنا والتي تتجاذبها رياح القرارات القادمة من الشمال وعبر الأطلسي دون أن تكون فاعلة في صنع قرارها وخلق تكتلها الذي يعطيها قوة وازنة على الساحتين الإقليمية والدولية؟
لقد تحدث بايدن بما يعنيه من شدّ أواصر حلف الأطلسي وإعادة تأهيل العلاقات مع أوروبا بما يرجح عودة هيمنة القرار الأميركي والقوة الأمريكية حتى على أوروبا وإلى الساحة الدولية وهذا يعني أن على الدول الأخرى أن تفكر بأسلوب مماثل بما يخصّ عناصر قوتها واحترام سيادتها واستقلالها وامتلاك عوامل قوتها الداخلية والحلفاء التاريخيين أو المقربين.
لا تغيير في النهج في الولايات المتحدة بما يخصّ علاقتها بدول منطقتنا وهذا متوقع جداً؛ إذ أن التغيير الحقيقي في مصير الشعوب لابد وأن تصنعه هذه الشعوب ذاتها فتعمل على تحصين نفسها داخلياً وتدرس اصطفافاتها الإقليمية والدولية بعناية ودقة بحيث تشكل هذه الاصطفافات والتحالفات عامل قوة إضافي وضمانة لها في وجه التحديات، وهنا وفي ضوء ما تبين من توجهات على الساحة الدولية والتي تنبئ ببداية حرب باردة بين الغرب من جهة والصين وروسيا من جهة ثانية أودّ أن أعرّج على ما يتم تناوله تلميحاً أو تصريحاً لدى بعض الناس في الآونة الأخيرة والذين يرون في السير على خطى المطبعين حلاً لمشاكلهم المعيشية أو الحياتية وقد ازدادت هذه الهمسات في الآونة الأخيرة وإن كنت أشعر أنها لا تستحق الردّ ولكني سوف أقول لكلّ هؤلاء إذا كنتم تعتقدون أن هذا خياركم فأنتم واهمون جداً لأسباب عديدة : أولاً لأنكم يجب أن تنظروا حولكم وتدرسوا مصير الدول التي طبّعت مع العدو الإسرائيلي منذ عشرات السنين وتستذكروا الحال الذي كانت عليه قبل والحال الذي غدت عليه بعد، وثانياً لأن الغرب وربيبته إسرائيل لا يقبلون حتى دولاً أخرى تحت مظلتهم ويعتبرون من مهامهم الأساسية إعادة تشكيل الدول المطبعة وفق مصالح دولهم فقط، وتذكّروا أيضاً كلّ الادعاءات والمقولات التي روّجوا لها قبل الحرب على العراق وأن العراق سيكون الأنموذج الذي ستسعى كل دول المشرق لتقليده بعد أن تحطّ به الدبابات والطائرات الأمريكية حاملة معها برنامج الخلاص للعراق والعراقيين فإذا بهم يأتون بالحرب الطائفية وتقسيم العراق. من ينتظر أن يأتي الخلاص من خارج حدود بلاده سيأتي خلاص يناسب أصحاب هذه الحلول وأجنداتهم وأطماعهم ومخططاتهم لنهب ثرواتنا وتاريخنا ومفاقمة معاناتنا. حتى الدول الأفريقية التي كانت غنية بمناجم الذهب استخرج الغربيون ذهبها وأفرغوا مناجمها وتركوها في فقرها وأوبئتها عائدين بكلّ ثرواتها لإعمار بلدانهم.
ما قاله بايدن يجب أن يُقرأ على أن المرحلة القادمة هي مرحلة التكتلات والمحاور وأن أولوية الولايات المتحدة هي في إعادة القوة والحياة إلى حلف الأطلسي والتعاون عبر المحيط في مواجهة القوى العالمية الصاعدة وأهمها روسيا والصين. والدرس الوحيد الذي يجب أن يكون مستفاداً من هذا الخطاب هو كيف نعزّز قوانا الذاتية والعمل مع حلفائنا وتشكيل تكتّل إقليمي يعبّر عن أولوياتنا ويجد له مكاناً في الإقليم والعالم كي يحسب له حساب ولا يستهان بأي من أعضائه. في هذا الإطار أيضاً يجب أن تلتزم بالحكمة تلك الأصوات المشككة بضرورة العمل مع الحلفاء على كلّ الصعد، والحذر من الطابور الخامس الذي ينشر دعوات التطبيع والتشكيك بأهمية التحالف مع روسيا وإيران والصين من أجل مستقبل أفضل نضعه نحن لأجيالنا المستقبلية.
رسالة بايدن لنا نحن الحريصون على أوطاننا هي كيف نعزز استقلالية هذه الأوطان ونكتشف أفضل السبل للعلاقات المستدامة مع الحلفاء والأصدقاء الذين يشاركونا الإيمان بقيم العدل والمحبة والسلام والمساواة في الكرامة بين جميع البشر وبين كل البلدان صغيرها وكبيرها.
لن يأتي المنقذ الغربي على حصان أبيض ولن يغيّر المستعمر تاريخه ونظرته العنصرية والفوقية لنا، ونحن الوحيدون الذين يمكن أن نسوق له درساً حقيقياً حول قدرتنا على التألق والإنجاز والتحليق في سماء التميُّز المبني دائماً على سلامة وسيادة الأوطان وازدهارها.