بقلم ناصر قنديل

بهجت سليمان وتتمّة الرواية: ناصر قنديل

– تكاد سيرة الراحل اللواء بهجت سليمان، سفير سورية السابق في الأردن، والذي أصيب بفيروس كورونا ورحل عنّا بسبب إصابته، في الفترة ذاتها التي أصيب بها ورحل بنتيجتها المناضل أنيس النقاش، أن تكون التفسير البليغ بحكمة التزامن التي تربطه برفيق دربه أنيس النقاش، في الولادة المتقاربة المواعيد بفارق سنتين على حدود السبعين عاماً، والمتقاربة الرحيل بفارق يومين، بتزامن موازٍ لمحطات لامعة في السيرة، لما كتبه النقاش في ساعات الهزيع الأخير ونشرت منه كلمات قليلة، عنوانها، أنا انتهيت والرواية ما تمّت.

 

– يصعب أن يحقق مسؤول في مؤسسات حكومة في أية دولة، خصوصاً عندما يكون قد تولى مسؤولية أمنيّة مفصليّة على رأس جهاز المخابرات، هذا الاجتماع النخبويّ والشعبيّ من المحبين، كما يصعب أن يواصل مسؤول سابق في حكومة أية دولة، ممارسة الشأن العام بعد التقاعد بصفته مثقفاً مقاتلاً، وأن يكون حاضراً بشكل يوميّ ليقول رأياً ويشرح موقفاً، ويتولى تعبئة شرائح من المجتمع حول خيارات ومواقف، كما يصعب أن تكون حيوية العلاقة بين مسؤول حكومي على رأس عمله أو بعد التقاعد، بالفكر والثقافة والفلسفة والعلوم والأدب والدين، الى حدّ الشغف، والقدرة على الامتصاص وإعادة التمثل، والنقد والشرح والتعقيب والتحليل، واستخلاص رأي خاص فيها، لكن بهجت سليمان جعل كل هذا الصعب سهلاً وممتعاً وممتنعاً ممكناً في شخصه، ليشكل موازياً في ملعب يسهل على مناضل مثل أنيس النقاش آتٍ من ميادين الثوار احتلاله، مرتاحاً لكونه لم يتسلم أية مسؤولية حكومية، وقامت كل تجربته على صياغة موقع فكريّ وسياسيّ خاص، ونذر حياته من الولادة حتى الممات لعقيدة وقضيّة، فيشكلان معاً كنموذجين بالتوازي والتزامن ثنائياً، لم يكن يوماً ثنائياً مكرساً يجمعهما بأبعد من مجرد الإصطفاف في خندق قتالي واحد بميزات متشابهة يتبادلان الحب والتقدير المتبادلين، لحد أن هذا الثنائي الكامل لم يكن قد ولد قبل أن يكرّسه الرحيل وما رافقه من أسئلة واستكشاف للميزات والموقع والدور.

– يقول النقاش، انتهيت، أي ها أنا ذا أغادر منهياً مهمتي، والرواية ما تمّت، أي أنني أنجزت فصولاً من الرواية وبقيت فصول لم تكتمل، وربما نجد التفسير البليغ لكلمات النقاش في تناظر سيرته مع سيرة سليمان، حيث يبدأ المثقف النوعيّ المشتبك، الذي يمثلُ كلٌّ من الراحلين نموذجاً له كلٌّ من موقعه وتجربته الشديدة الثراء وحضوره الشديد التميّز، بكتابة سيرته بحدث استثنائي مبهر يكون لبصمته فيه حضور لافت ومميز، وبتتالي تتابع هذا النوع من الحضور، وتدريجاً يتراجع الإبهار لصالح العمق، والثائر لحساب المثقف، فنجد ما يلفت من تابع سيرة الراحلين عن قرب، أنّهما في الرابعة والعشرين من العمر خطّ كل منهما بصمته الأولى، بهجت سليمان قائد سريّة دبابات في الجيش العربي السوري يشكل العنوان لمواجهات نوعية فاصلة في حرب تشرين عام 1973 على جبهة الجولان وجبل الشيخ نحو فلسطين، وأنيس النقاش المناضل والثائر يكتب من فيينا عام 1975 وهو في الرابعة والعشرين أول السيرة، بحجز وزراء النفط في منظمة أوبك، حيث أراد ورفاقه استخدام تلك المنصة لإطلاق صرخة مدوّية نحو فلسطين وقضيتها، ثم يلتقيان في حدثين مشابهين بالرمزية. أنيس نقاش عام 1980 يطلق النار على شهبور بختيار في باريس لتنفيذ حكم إعدام قال إنه أراده بحق خادم لمصالح “إسرائيل”، ونصرة للثورة التي رفعت علم فلسطين في إيران، وفي عام 1982 بهجت سليمان قائد لواء مدرعات في الجيش العربي السوري يقتحم جبهة التقدم الإسرائيلي في البقاع الغربي، كاتباً ملحمة تُنهي التقدم وترسم خط أمن دمشق، وأمن المقاومة التي ستنطلق خلال شهور، وأمن فلسطين التي سيتجمع أبناؤها ومناضلوها المبعَدون قبل العودة اليها في مرج الزهور، عند النقاط التي حفرتها جنازير الدبابات التي قادها بهجت سليمان.

– تستمرّ محطات المسيرتين المتوازيتين، وتلتقيان حول حماية سورية وفلسطين والمقاومة. فالنقاش يصبح ركناً في مسيرة المقاومة الى جانب رفاقه في مسيرة حزب الله، وسليمان يقود ساحة الاشتباك الدبلوماسي لدولته من عمان، ويؤسس ساحة التحام مفتوحة نحو فلسطين، وساحة للأمان القومي مع مناضلي الأردن، فيقرآن رواية واحدة في كتابين، تكمل سيرة أحدهما الآخر، بمثل ما كانت معارك الدفاع عن سورية، وشرح معانيها ورسم أبعادها وحشد الطاقات لها، مسؤولية طوعية اتخذاها خلال سنوات العمر الأخيرة بوصلة وقضية ومسؤولية، فنشر كل منهما إشعاع فكره في بيئة المئات من النخب العربية، وتابعتهما ملايين الناس عبر الحضور الإعلاميّ، كنماذج نقية وراقية لنضال سورية وشعبها وجيشها وقائدها، وللمقاومة في لبنان وفلسطين، وزرعا بسمة الأمل في الليالي السوداء، واستشرفا نصراً كان لهما أن يشهدا فصوله لولا هذا الرحيل المبكر.

– تتمة الرواية التي أرادها أنيس النقاش هي نصر سورية، الذي بشّر به، بصفتها درة تاج محور المقاومة الذي شارك بتأسيسه، وتتمة الرواية مثلها بهجت سليمان بنموذجه الجامع لرمزية الشعب والدولة والجيش والنخب في سورية حول مشروع بشّر به الرئيس بشار الأسد قبل عقد ونيّف، أسماه بمنطقة البحار الخمسة تتوسّطها سورية، وأسماه لاحقاً أنيس النقاش بفدرالية الشرق، ووصايا الراحلين من بين الكبار تاريخياً هي المشاريع التاريخية، وليس ما يفعلونه قبل الرحيل، الا إثبات الجدارة بكتابة الوصية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى