ممالك السياسة والقضاء والإعلام والأمن: ناصر قنديل
– يمكن لكل مَن ينطلق من موقعه الخاص السياسي او الطائفي او الشعبي او المصلحي في النظر الى المشهد اللبناني أن يتبنى الدفاع والتبرير عن واحدة من الممالك السياسية والقضائية والإعلامية والأمنية، ويصوّرها كامرأة القيصر فوق الشبهات، ويذرف دموعه على مظلوميّة واحدة من هذه الممالك، لكن الحقيقة المرّة هي أن الاهتراء الذي أصاب البلد يجعل كل شيء مصاباً بالداء ذاته، من السعي للبقاء فوق القانون أولاً، إلى تغوّل الشخصنة والأنا ثانياً، إلى إباحة التطلع نحو موقع المقبولية في الخارج والتعاقد الوظيفي معه، وتسويقها كعمل مهني مجرد ولو من خارج اي اتفاقيات ومعاهدات يفترض ان تنظم اي دور خارجي في اي قطاع او مجال عمل وظيفي لمؤسسات الدولة.
– السياسة مصدر الشياطين وأمّها، لكنها ليست محصورة بالسياسيين، فالكل متخندق في السياسة وطامح في السياسة، ولاعب في السياسة، وحصر الشيطنة بالسياسة لتصوير ممالك القضاء والأمن والإعلام كمسيح مخلص مقهور ومظلوم، او نصب متاريس الدفاع عن إحداها، قد يستثير تصفيقاً في مكان شعبي بفعل الشعور بالمرارات المتراكمة حيث المستوى الأعلى للقرار يحمله أهل السياسة، لكن الحل يبقى في السياسة، وليس بلبس قبعات بديلة لاحتلال موقعها في السياسة ولكن بمزاعم قضائية او إعلامية أو أمنية يتم تسويقها كبدائل بالانفراد أو بالاجتماع، فليس الحل في لبنان بحكم عسكري، ولا بوصول القضاة الى سدة الحكم، ولا بخروج الإعلام عن كل مسؤولية وضوابط وطنية وأخلاقية، وتحوله صانعاً للرؤساء والسياسات، فالكل يلعب سياسة، لكن تحت شعار لعن السياسة.
– في لبنان سياسيون يقيمون علاقات بالخارج من خارج الدولة والقانون، وينكرون ويتنكرون، ووحدها المقاومة التي تعلن علاقاتها وتقدم لها تفسيراً من حق الآخرين مناقشته، لكن ليس من موقع التنكّر لما يقومون به في العتمة، ووحدها المقاومة تتلقى دعماً مالياً من الخارج وتعلن عن مصادره ووظيفته، ومن حق الآخرين مناقشته، لكن ليس بمزاعم الملائكية وهم يتلقون أموالاً تحت الطاولة، لتسويق وتطبيق سياسات الخارج، لكن في لبنان أيضاً القضاء الذي أصيب في تحقيق تفجير المرفأ يقيم تنسيقاً مع الخارج، ويتحدث عن تكامل التحقيق الوطني السيادي مع تحقيق أجنبي معلوم ان له وظيفة في السياسة، كما ورد في بيان علني للمحقق العدلي، الذي أعفي من مهمته أمس ويذرف البعض دموعهم على رحيله وهم يتحدّثون بقدسية مفتعلة عن كيفية بناء الدولة، وفي لبنان دور وحضور ونفوذ للأميركيين والبريطانيين في المؤسسات العسكرية والأمنية لكن لبنان لم يوقع كدولة معاهدة لتعاون عسكري يتضمن هذه المهام ويشرع هذه الأدوار، مرت امام المؤسسات الدستورية وحظيت بالمصادقة عليها. وفي لبنان يعرف الجميع أن مؤسسات الإعلام لا تعتاش من عائدات عملها المهني والتجاري، وأنها تتلقى أموالاً تقدم مقابلها خدمات سياسية لخارج ممول، من خارج مفاهيم تحترم قدسية الرسالية الإعلاميّة التي يتم إشهارها بوجه السياسة وأهل السياسة، تحت شعار البراءة ومظلة الحرية، لخدمة أهداف سياسية.
– الاهتراء الذي أصاب المؤسسات السياسية ودمّر سمعتها وهيبتها، يتحمل مسؤوليته السياسيون، ولذلك ستفشل كل محاولات ترميم صورة السياسة، من قلب قواعد اللعبة السياسية نفسها، وسيزداد تحول لبنان الى ممالك متنازعة بعناوين المخلص القضائي والعسكري والملاك الإعلامي، والخارج حاضر في كل هذه العناوين، ومن دون رد الاعتبار للسياسة كمسؤولية عن ممارسة أخلاقية للشأن العام، واستعادة شرعية السياسة ومؤسساتها من بوابة انتخابات مقبلة، وفقاً لقانون يتيح إعادة تأسيس الدولة، لن يكون متاحاً تذويب الممالك المتضخمة في بنية دولة واحدة، والممالك المتنامية التي تأكل الدولة تتعيش على تحول اهل السياسة الى مجموعة إمارات طائفية متنازعة تشكل خطوط التماس بينها هوامش حركة هذه الممالك، والفوضى التي نعيشها قانونياً وإعلامياً وأمنياً، وتقاذف الاتهامات بينها وبين أهل السياسة ستزداد، لأن الجميع مرتاح لغياب مشروع الدولة واختزالها بذاته.
– سيبقى غير السياسيين يمارسون السياسة سراً ويلعنونها علناً، حتى يدرك أهل السياسة أنه لم يعد ممكناً الاستمرار بالعقلية التي أنتجت الكارثة ولا تزال، ويقومون برد الاعتبار للسياسة، أو تأتيهم فرصة داخلية وخارجية تشبه ما حدث مع اتفاق الطائف فتوحّد صفوفهم، تحت خيمة تسوية بين المتدخلين الخارجيين الكبار، وربما هذا ما ينتظرونه، وفي هذه الحالة لا حاجة لمعارك جانبية.