التعليق السياسي في زمن المقاومة : «إسرائيل» في موقع الدفاع لا في موقع الهجوم…: د. عدنان منصور _
رغم كلّ التصريحات، والتحذيرات، والتهديدات، والتلويح بالحرب، التي يطلقها القادة السياسيون والعسكريون “الإسرائيليون” من آنٍ الى آخر ضدّ لبنان ومقاومته، ورغم المناورات الحربية والاستفزازات، والتحصينات، والقبب الحديدية، والخروق العدوانية المتواصلة للسيادة اللبنانية براً وبحراً وجواً، فإنّ حقيقة لا يمكن تجاهلها، تحيط بالكيان الصهيوني، تجعله مكبّل اليدين أمام أيّة مغامرة يقوم بها مستقبلاً، لشنّ عدوان واسع النطاق، على لبنان، وبالذات على المقاومة فيه، لاعتبارات عديدة لا يمكن له عدم التوقف عندها، أو التغافل عن تداعياتها.
لقد عمدت “إسرائيل” على مدار عقود منذ احتلال الكيان الصهيوني لفلسطين عام 1948، أن تكون البادئة في شنّ أيّ عدوان على دول عربية، واضعة في حسابها، دعماً قوياً من الغرب، لا سيما الولايات المتحدة التي توفر لها الإمكانات والغطاء السياسي، والدعم الدولي أثناء الحرب وبعدها. هكذا كانت “إسرائيل” تشنّ العدوان تلو العدوان، منذ عام 1955 على قطاع غزة، وعام 1956 على مصر أثناء العدوان الثلاثي عليها، وحرب حزيران عام 1967، والعدوان على مطار بيروت الدولي عام 1968 وتفجير الطائرات المدنيّة فيه، والعدوان الذي أسفر عن اجتياح الأراضي اللبنانية عام 1982، وعدوان “عناقيد الغضب” عام 1996 وقصف محطات الكهرباء عام 1999 وصولاً إلى ذروة الاعتداءات، وهي الحرب التدميرية الواسعة النطاق التي شنّها العدو على لبنان عام 2006.
لقد كانت “إسرائيل” في حروبها، تشعر على الدوام بتفوّقها العسكري النوعيّ الذي يجعلها كلّ مرة في موقع الهجوم، حيث كانت تخوض حروبها، وتنقل معاركها الى خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، تقصف ولا تُقصف، تضرب ولا تُضرب، تسيطر على الأراضي وتجعل من الاحتلال أمراً واقعاً، يعززه تأييد وانحياز غربي وقح لها، من دون أيّ اعتبار للقانون والمجتمع الدولي، وللقرارات الأممية ذات الصلة.
كان التفوّق العسكري الجوي “الإسرائيلي” على الدوام يغطي السماء الفلسطينية، يدفع بالعدو كي يتمادى في عدوانه وعنجهيّته وغروره، حتى جاء الوقت الذي بدأت فيه المعادلات العسكرية والبشرية النوعية ترسم خريطتها على الأرض. إذ بدأت مرحلة جديدة مع مطلع الثمانينيات، تؤسّس لمعادلات قوية بدأت تقلب في ما بعد، التوازنات والمعايير، والمقاييس العسكرية التي كانت سائدة لفترة من الزمن، والتي كانت تصبّ بشكل دائم في صالح العدو.
للمرة الأولى وجدت “إسرائيل” نفسها، وقادتها السياسيون والعسكريون، أنهم أمام وضع جديد، وأمام مقاومة يصعب احتواؤها، أو كسرها او هزيمتها، نظراً لما تتمتع به من أسباب القوة، والإيمان العميق بقضيتها ورسالتها، واستبسالها في الدفاع عن الأرض والإنسان. مقاومة مشبعة بعقيدة راسخة، وبالمعنويات والروح القتالية العالية، معزّزة، ومحصّنة بآلاف المقاتلين والاستشهاديين
المتعطشين لمواجهة المعتدين المحتلين.
لقد شكلت المقاومة للعدوان “الإسرائيلي” الواسع النطاق على لبنان عام 2006، علامة فارقة ومنعطفاً استراتيجياً كبيراً في تاريخ الصراع العربي “الإسرائيلي”، حيث ألحقت الهزيمة بالجيش “الإسرائيلي”، من دون أن يحقق أهدافه في القضاء على المقاومة، ومن دون أن يتيح لحليفته الولايات المتحدة إنشاء “الشرق الأوسط الجديد”. إذ كانت المواقع والأهداف في الداخل “الإسرائيلي” تقصف للمرة الأولى منذ إنشاء الكيان عام 1948، حيث لم يستطع العدو حتى اليوم استيعاب ما حلّ بجيشه على يد المقاومين، والتداعيات التي لا تزال آثارها تتفاعل، تقلق العدو، وتشكل هاجساً ورعباً دائماً له، يجعله يحسب ألف حساب للمقاومة قبل أن يخوض أيّ مغامرة عسكرية، أو حرب يلجأ إليها.
اليوم ومع مرور خمسة عشر عاماً على العدوان، الصهيوني، تعلم “إسرائيل” وأجهزتها العسكرية، كما الأجهزة الخارجية، علم اليقين مدى استعداد، وقدرات، وتجهيزات، واقتدار المقاومة، وحكمة قيادتها، ومعدن رجالها، ومقاتليها، ومجاهديها، وتماسك حاضنتها الشعبية، ما يجعلها على أتمّ استعداد لصدّ أيّ عدوان، وأن تلحق الدمار بالمنشآت “الإسرائيلية” أينما كانت في فلسطين المحتلة. لم تعد الذراع “الإسرائيلية” طويلة وحدها تعربد متى شاءت، وتدمّر متى ما أرادت. فالذراع الطويلة تقابلها ذراع أطول، والدمار الذي كان يلحقه العدو بنا، لن يكون بعد اليوم بعيداً عنه ومحصّناً بقبَبه الحديدية. كما أنّ الكيان “الإسرائيلي”، لم يعد يتقبّل أيّ مغامرة عدوانية لجيشه، حيث لا أحد يعرف النتائج الوخيمة ما بعد الحرب التي سيواجهها “الإسرائيليون”، وهي بالتأكيد لن تكون في صالحهم، ولن توفر لهم بعد ذلك الأمن والاستقرار الذي يريدونه.
إنّ التهويل والتهديد والترهيب، والتخويف، والوعيد “الإسرائيلي”، لن يجدي ولن ينفع، فهو للاستهلاك الداخلي، ولاستيعاب المشاكل والأزمة السياسية الحادّة التي يعاني منها نتنياهو وشلته. فـ “إسرائيل” اليوم لم تعد تتمتع وتحظى بالغطاء العلني السافر المكشوف لحروبها، من قبل دول كبرى كانت تقف باستمرار الى جانبها، وتبرّر عدوانها، فهي اليوم تحت المجهر، نظراً لخروقاتها المتمادية المستمرة للقوانين والشرعية الدولية، وارتكابها المجازر ضدّ الإنسانية، وهدمها منازل الفلسطينيين، وتهجيرهم، ومصادرة أراضيهم، وملاحقتها أمام محكمة الجنايات الدولية، بالإضافة الى إدراك وتفهّم شعبي متنام في المجتمعات الأوروبية والعالمية، يتعاطف مع الفلسطينيين وحقوقهم، وينتقد ويدين الممارسات اللاإنسانية ضدّهم. كلّ ذلك يضع “إسرائيل” في مأزق، يجعلها مكبّلة اليدين، وفي موقع الدفاع أمام المقاومة في لبنان وفلسطين، وليس في موقع الهجوم.
إنّ المعادلة على الأرض تغيّرت كمّاً ونوعاً، واقتداراً، وتخطيطاً وتنفيذاً، وهذا ما أجبر العدو أن يكون في موقع لا يُحسَد عليه، رغم الترسانة العسكرية الهائلة التي يمتلكها، بحيث يكتفي اليوم بالاستفزازات والاستعراضات التي يقوم بها، والمناورات العسكرية، والتهديد، والتهويل الذي يطلقه من وقت الى آخر، تنفيساً لاحتقانه، ورفع معنويات مواطنيه، عوضاً عن حرب واسعة يشنّها، لن تكون وفقاً لتقديرات الدوائر العسكرية الأجنبية المتابعة للشأن “الإسرائيلي” في صالح العدو وأمنه، واستمرار وجوده.
يبقى للمقاومة دورها، وجهوزيتها، وقرارها الحرّ الذي تختاره، في المكان والزمان المناسبين، حيث لن يثنيها عن الدفاع عن كامل أرضها وتحرير ما احتلّ منها حين تدعو الحاجة ويدق النفير.
إنّ العصر “الإسرائيلي” الذي ساد من مطلع الخمسينيات الى التسعينيات، واحتكار الكيان لقرار الحرب قد أفل، ليحلّ مكانه عصر المقاومات على مساحة المنطقة، يفرض إرادته، ويكتب تاريخاً مشرّفاً للأمة وشعوبها، وهي في مواجهة دولة الاحتلال والعدوان.
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق
(البناء)