سورية: مشروع «قسد» الانفصاليّ أمام طريق مسدود… كيف ستتصرّف؟: العميد د. أمين محمد حطيط*
بعد أن تمّ تحرير حلب وأجهزت سورية بدعم من حلفائها على الأحلام العدوانية فيها وسقط مشروع السيطرة على كامل سورية ودفنت أوهام أردوغان في شوارع حلب وبخاصة أحيائها الشرقية، بعد هذه الهزيمة الاستراتيجية الكبرى للعدوان على سورية في خطته الأولى أيّ السيطرة على كامل سورية تمّ العمل العدواني في المشاريع البديلة وأهمّها مشروع القضم والاحتلال التركي للشمال والشمال الغربي السوري، ومشروع الانفصال الكردي في الشمال الشرقي السوري. المشروع الأول تقوده تركيا بأداوت إرهابية من سوريين وغير سوريين يدعمهم ويحتضنهم الجيش التركي، والمشروع الثاني تنفذه جماعات كردية نظمت نفسها تحت تسمية «قوات سورية الديمقراطية» (قسد) التي ارتمت في الحضن الأميركي مستفيدة من دعم أميركا التي ترى في الانفصال مقدّمة لتقسيم سورية كحل بديل يعوّض خسارتها الاستيلاء على كلّ سورية.
وفي المقابل وضعت سورية ومنذ أن تبيّنت خطورة المشروعين الكردي والتركي، خطة تراعي الإمكانات والظروف واعتمدت استراتيجية ترمي إلى تحقيق أهداف ثلاثة أولها منع نجاح المشروعين، وثانيها منع الصدام العسكري المبكر مع أدواتهما التنفيذية اقتصاداً للجهد والطاقات التي تتطلبها ميادين أخرى وفقاً لجدول الأولويات الموضوع، وآخرها تجربة حلول بديلة للمواجهة ترتكز على العمل السياسي والأمني وشبه العسكري.
وقد تمكنت سورية من خلال استراتيجيتها تلك من كبح جماح أصحاب المشروعين، حيث إنّ المشروع التركي رغم ما حقق على الأرض من مكاسب ورغم تمكّنه من احتلال أرض سورية في الشمال الغربي وشمال حلب، ورغم تقدّمه في مشروع التتريك لبعض المناطق التي احتلها، رغم كلّ ذلك بقي هذا المشروع في حالة من الوهن تمنع تثبيته والسير قدماً في تنفيذه، سواء في إدلب و/أو شمالي وشرق حلب، واستمرّ محتاجاً إلى أقنعة سورية يتخفى خلفها ممتنعاً عن المجاهرة بحقيقة مقاصده المتمثلة بتنفيذ بعض بنود «الميثاق الملي التركي» التي تعطيه الحق باقتطاع أرض سورية.
أما المشروع الكردي الانفصالي فقد وجد أصحابه أنّ هناك عقبات كبيرة تواجهه ليس بمقدور فئة من الأكراد تمثلها «قسد» مواجهتها بمفردها، وهي عقبات متعدّدة المصادر منها العقبة التركية المتمثلة برفض تركيا وجود كيان كردي مستقلّ على حدودها فضلاً عن سعي تركيا لقضم جزء واسع من الأرض التي يقوم عليها هذا الإقليم الانفصالي، والثاني العقبة السورية بوجهيها الرسمي والشعبي، حيث إنّ الحكومة المركزية في دمشق ترفض رفضاً قاطعاً أيّ فكرة للانفصال أو مشروع للتقسيم أو سعي لقضم أرض سورية، وقد وضعت كما رأينا استراتيجية واقعية وعملية للتحرير وتعطيل وإجهاض مشاريع العدوان عليها، كما أنّ الشعب السوري في المنطقة يرفض بأكثريته الساحقة التي فيها عرب وأكراد الانفصال عن الدولة الأمّ، وأخيراً أنّ التركيبة الديمغرافية للسكان في المنطقة المرشحة للانفصال لا تتناسب مطلقاً مع المشروع.
لكن «قسد» التي واجه مشروعها تلك العقبات عملت على تذليلها والسير قدماً في التنفيذ عبر الاتكاء المباشر والقوي على الاحتلال الأميركي الذي برّر استمراره في سورية بطمعه بنفطها، كما قال ترامب، ثم انتهجت سياسة إجرامية تستهدف المواطنين السوريين الرافضين للمشروع الانفصالي وهم الأكثرية الساحقة من سكان المنطقة، وخيّرتهم بين حلين إما الخضوع والاستسلام والإذعان لمقتضيات الانفصال بما في ذلك قبول التجنيد العسكري الإجباري للدفاع عنه، أو الرحيل عن المنطقة نهائياً. ولأجل ذلك اعتمدت «قسد» ممارسات إجرامية وحشية بحق السكان وأحرقت محاصيلهم الزراعية وأغلقت مدارسهم وحاصرتهم في أحيائهم السكنية ما منع عنهم الماء والغذاء والدواء وانتقلت إلى درجة أخرى من سلوكها الإرهابي فنفذت بحقهم وحق رؤساء العشائر عمليات القتل والاغتيال. أما العقدة التركية فقد عوّلت «قسد» على دور أميركي ونوع من وساطة روسية لمنع المواجهة مع الجيش التركي إذا قرّر التدخل المباشر. وأخيراً يبقى الدور الإسرائيلي الذي ظنّت «قسد» أنه يمنحها المعنويات ويؤثر على القدرة العملانية المعادية التي تواجهها.
بيد أنّ حسابات الحقل السوري لم توافق نتائج البيدر الكردي، وتبيّن لـ «قسد» أنّ ظنونها أو ما عوّلت عليه لتذليل ما اصطدم به مشروعها من عوائق لم يكن في محله حيث إنها:
1 ـ فوجئت بموقف أميركي أعقب خروج ترامب من البيت الأبيض، موقف يتنصّل من النفط وحمايته ويقصر وظيفة الوجود الأميركي الاحتلالي في سورية على محاربة داعش مع الإيحاء العلني بأنّ مشروع «قسد» الانفصالي هو مشروع غير واقعي وغير قابل للتطبيق وغير قابل للحياة ان فرض بأي شكل من الأشكال.
2 ـ اصطدمت برد فعل المواطنين السوريين الذين لم ترهبهم الجرائم والحصار الذي نفذته «قسد» بحقهم، واستمروا متمسّكين بأرضهم ودورهم ولوّحوا بإطلاق مقاومة مدنية تحول دون نجاح أو استقرار مشروع الانفصال، مهما كانت القوة والوحشية التي يستند إليها.
3 ـ فوجئت بتحرك طلائع مقاومة ميدانية سورية لا زالت في بدايتها من دون أن تعلن عن هويتها ومن دون أن يُعرف بالضبط من هم القائمون بها، ولكن من المنطقي أن تكون مقاومة شعبية سورية تعمل لإفشال المشروع الانفصالي، ما يعني عوائق ميدانية بدأت وينتظر تعاظمها كما هو حال المقاومات التي تبدأ متواضعة وتتمدّد حتى التحرير.
4 ـ تأكدت أنّ روسيا أو أميركا لن يروّض أيّ منهما الموقف التركي الرافض للمشروع الانفصالي وأنّ تركيا تتربّص بهذا المشروع لتنقضّ عليه في اللحظة التي تتيقّن من اقترابه من عتبة التحقق والنجاح.
5 ـ أما التدخل «الإسرائيلي» فقد وجدت أنه موقف استعراضي تخريبي لا يغني ولا يسمن ولا يحقق لها ما تصبو اليه في مشروعها.
6 ـ وأولاً وأخيراً تيقّنت أنّ الموقف السوري الرسمي الوطني الذي تتخذه الحكومة السورية المركزية هو موقف نهائي حازم لا رجعة فيه ولا مساومة عليه، وأنّ أقصى ما تقبل الحكومة أو تسمح به هو تطبيق قانون الإدارة المحلية بشكل مرن ومراعاة خصوصية ما للمنطقة وسكانها.
انطلاقاً من هذه الحقائق والوقائع وجدت «قسد» نفسها أمام وضع عليها أن تختار فيه بين حلين، إما أن توفر على نفسها وسورية وشعبها الخسائر والويلات وتتراجع عن مشروعها العقيم، أو تستمرّ بغباء وعمى بمشروعها الانتحاري الذي لن تقوم له قائمة، والذي سيتسبّب بعظيم الخسائر لها أيّ لـ «قسد» وللبيئة التي تتحرك فيها، فـ «قسد» اليوم أمام خيارين: خيار عقلاني يقود لحفظ الذات وانتصار سورية، وخيار انتحاري يقود للتدمير الذاتي وإلحاق الخسائر المتعددة بالآخرين، فأيهما تختار…؟
*أستاذ جامعي – خبير استراتيجي.
(البناء)