هذا الجنرال المثقف: عماد مغنيّة لن أنساك: ناصر قنديل
– خلال قرابة نصف قرن من العمل العام السياسي والنضالي والعسكري والإعلامي، تعرّفت إلى المئات من الشخصيات التي لعبت أدواراً حاسمة، وتحوّل بعضهم الى أصدقاء مقربين، لكن لم تدهشني ولم تأسرني عاطفياً شخصية منها بمثل ما فعلت شخصية عماد مغنية، الى الحد الذي أشعر فيه في مثل هذا اليوم أنه قد استُشهِد بالأمس، وكلما تحدثت عن قائد فذّ وجبت له شهادة القول الحق أشعر بعقدة ذنب كأنني أخون صداقتي وأخوتي لعماد، وهما صداقة وأخوة امتدتا على مدى ثلاثين عاماً ولم تتضمّنا أي مستوى من العلاقة الشخصية او العائلية، وكانتا مليئتين بكل ما هو عام، حتى في تبادل الطرائف بعد جلسة تمتدّ لساعات يكون الحاضر الوحيد فيها هو الهم العام.
– منذ تعرّفي بهذا الشاب عام 78 كان مدخل العلاقة كتاب، هو نحن التوباماروس، سألني عن كتاب يفيد في شرح قواعد حرب العصابات، فتناولته من مكتبتي المتنقلة معي آنذاك وقدّمته له، ليعيده بعد يومين سائلاً المزيد، فكان كتاب “هكذا انتصر الفيتكونغ”، وبدأت العلاقة تتوطّد، حتى وقع الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وجمعتنا جبهات القتال دفاعاً عن بيروت والضاحية، وكنا نستغل أوقات وقف النار لنقوم بجولات في العاصمة نتفقد مستودعات السلاح المتروكة أو التي يرتضي القيّمون عليها أن يمنحونا بعضاً مما تضمّ من أسلحة وذخائر، لنختار المناسب لحرب المقاومة المقبلة ونتولى إخفاءه. وعندما التقينا للمرة الأولى بعد دخول لبنان مرحلة الوصاية الأميركية الإسرائيلية، كان ختام اللقاء طلباً للكتب، ماذا عندك من كتب عن الاستراتيجيات العسكرية، فكان كتاب كلاوفزفيتز عن الحرب، وكتاب اندريه بوفر عن الاستراتيجية، وكتاب للهيثم الأيوبي عن حرب تشرين.
– استمر التواصل من دون لقاء لسنوات والمقاومة تنمو وأنا أراقب وأعرف وأميّز بصمة عماد في بعضها، وأقول في سرّي إن المقاومة تصنع جنرالها، وكم كانت دهشتي عندما التقينا في مبنى إذاعة صوت المقاومة عام 85، للقفزة الفكرية والتنظيرية العسكرية التي كان هذا القائد الواعد يبنيها حجراً على حجر، فقد قدّم شرحاً لحسابات المعادلة الاستراتيجية مع الاحتلال تقول إن الانسحابات المتدحرجة ستقف عند الشريط المحتل، لكنها قرار ضمنيّ بانسحاب شامل مع وقف التنفيذ، مهمة المقاومة تنفيذه، لأن الاحتلال يعترف بأن الاجتياح قد فشل، وأن الانسحاب الذي برّره من بيروت بمقالات خبرائه بخصوصيّات المدينة، ومن الجبل بخصوصيات الجبل، قد صار قانوناً غير قابل للأخذ بالخصوصيّات، وإذ بايهودا باراك عام 1987 عندما كان رئيساً لأركان جيش الاحتلال يكتب مقالاً في الهآرتز يقدم فيه معادلة هذا العماد ذاتها.
– خلال السنوات اللاحقة ظهرت عبقريّة عماد التكتيكية بعدما أبدع في رسم الاستراتيجيات، بعدما صاغ معادلة الحرب بالروح، القائمة على ثنائية الاستثمار الروحي في بناء المقاومة، والانصراف لتدمير الروح في كيان الاحتلال وجيشه، ونظرية المقاومة السريّة شبه النظامية بالبدء ببناء سلاح الصواريخ، مطلع التسعينيات، وصولاً لفرض معادلة الردع في تفاهم نيسان، وقبيل التفاهم كان يطلب من بعض الأصدقاء أن يرسلوا له ما لديهم من آراء وقراءات ووثائق حول اتفاقية الهدنة والموقف المقترح للتعامل معها، وكان قد بلغ نضجه الاستراتيجي والتخطيطي العسكري والاستراتيجي، لكنه بدأ يدخل باب التقنيات العسكرية الواسع، متخطياً ما يجب أن يعلمه القائد العسكري، ليضع نصب عينيه قضيتين عسكريتين تكتيكيتين، متفرعتين من حرب الروح، الأولى هي بلوغ الزمن صفر في الفاصل بين القصف التمهيديّ للهجوم وبدء تقدم المقاومين نحو الهدف، والثانية بلوغ الزمن صفر بين وقف القصف التمهيديّ لهجوم العدو وخروج المقاومين لملاقاة المهاجمين، وقد تجلّت نتائج هذين الإبداعين التكتيكيين غير المسبوقين حتى تاريخه، واللذين تعجز عن مجاراتهما جهوزيّة وخبرة واستعدادات أي جيش في العالم، وقد شهدنا في حرب تموز معارك مارون الراس وبنت جبيل تترجم المعادلة الثانية، وشهدنا عام 2000 قبل التحرير سلسلة من الهجمات النوعية الممتدة على طول خط الاشتباك خصوصاً في منطقة سجد وبئر كلاب وجبل صافي، تجسّد المعادلة الأولى، التي تكرر حضورها في حرب الجرود قبل أعوام قليلة على أيدي رفاق العماد وتلامذته.
– عماد مغنية أكاديميّة عسكرية وثقافة موسوعيّة، وروح مفعمة بالإيمان والأخلاق وعماد ذاكرة، أستاذ في الوفاء وتقع الصداقة والأخوة في صدارة منظومة القيم عنده، عماد شجاعة استثنائيّة وروح مبادرة خلاقة، نادراً ما يكون ختام نقاش عملي معه غير كلمة توكّلنا، أي بدء العمل على الترجمة عملياً، عماد قدرة استثنائية على الحوار والتشبيك مع كل من يرفع سلاحاً بوجه الاحتلال، وفي ذكرى الرحيل نذرف دمعة، ونضع وردة على ضريحه، ونشهد أنه بعض عظيم من هذه المقاومة العظيمة، ينتسب كل منهما للآخر، وهو عماد الضاحية المفعَمة بروائح الكتب، وعبق دماء الشهداء، وطيب تبثه طيبة الناس الفقراء البسطاء الذين يفتخر عماد ونفتخر مثله بالانتساب إليهم.