انتفاضة 6 شباط ودورها التأسيسي في الحياة الوطنية
غالب قنديل
شكلت انتفاضة السادس من شباط 1984 محطة تأسيسية فاصلة في تاريخ لبنان المعاصر. وقد تكفّلت بإزالة آثارٍ سياسية مدمّرة، ارتدّت على الحياة الوطنية وعلى الوحدة الشعبية في البلد بأضرار جسيمة، فأعادت الانتفاضة الاعتبار للوحدة الوطنية، وأطلقت مسارا جديدا لتصحيح النظام السياسي، كما اطلقت آليات تجاوز الصيغة الطائفية، التي أورثت خللا خطيرا في الحياة الوطنية. ويمكن القول بكل وضوح إن وصايا الانتفاضة شكّلت المسودة الأولى لاتفاق الطائف، الذي أطلق تأسيس الجمهورية الثانية، وأعاد بناء الوحدة الوطنية على أسس جديدة، وبعقد سياسي دستوري جديد.
أولا: إن التأريخ لهذه المرحلة يحفظ لحركة أمل وللرئيس نبيه بري دورا حاسما ورئيسيا في تثبيت الوحدة الوطنية، رغم الندوب التي خلفتها مرحلة الاجتياح الصهيوني والانقلاب الكبير، الذي قاده اليمين اللبناني بالتحالف مع العدو، وتمّ على أساسه تعديل هياكل الدولة ومؤسساتها، التي تمّت كتابتها بصورة أدت الى تسعير التناقضات الطائفية، وعمّقت الشروخ في الحياة الوطنية.
وانتفاضة شباط، بهذا المعنى، كان لها دور تأسيسي بإعادة بناء الوحدة الوطنية والوفاق السياسي لبلورة إرادة مشتركة من خلال الحوار، واستنادا الى توازنات جديدة بموازاة الانتصارات، التي راكمتها المقاومة في مواجهة العدو الصهيوني. فجرت تحولات الداخل سياسيا في ظل تبلور معادلات جديدة في الصراع ضد الاحتلال الصهيوني. وبهذا المعنى كان التكامل الحقيقي بين القيادة السياسية للرئيس بري ولحركة أمل وبين فعل المقاومة، الذي تصّدره حزب الله وكرّس له جهودا استثنائية لمجابهة آلة الاحتلال الهادرة وداعها الأميركي. وهذا التكامل، الذي حصل بين استنهاض حركة شعبية لبنانية رافضة لكتابة الدولة ولحكم 17 أيار وبين المقاومة التي قاتلت المحتل واستنزفته على الأرض اللبنانية بالشراكة بين حركة امل وسائر الفصائل المقاومة، ولا سيما حزب الله، الذي تعاظم دوره في مطاردة فلول العدو وفرض المعادلات الحاسمة، التي قلبت التوازن، وأنجزت تحريرا شاملا للأرض، اسس لمعادلات الردع، التي تحمي لبنان اليوم من خلال القدرة المتعاظمة للمقاومين، الذين يحصّنون السيادة اللبنانية بالشراكة مع الجيش، ويردعون العدو.
ثانيا: هذ المعادلة اللبنانية الجديدة كانت من ثمار انتفاضة السادس من شباط، وأبرز نتائجها السياسية التي صحّحت الحياة الوطنية اللبنانية والتوازن اللبناني الداخلي، وأسست لما عُرف لاحقا بالجمهورية الثانية والدستور الجديد، الذي تمّ التفاهم عليه بنتيجة مؤتمر الطائف للحوار الوطني اللبناني.
إن ائتلاف سائر القوى الوطنية خلف حركة أمل في الانتفاضة، وما تبعها من تفاوض لاحق، جسّد حالة من التماسك والقدرة على تثمير التوازنات والإنجازات بصورة هائلة وغير مسبوقة على صعيد الحلف الوطني، وهو أمر دام لسنوات بعد ذلك، وكان عاملا مهما في بناء إرادة لبنانية لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها بعد الحرب.
ثالثا: هذه الانتفاضة الشعبية، التي كان لها دور تأسيسي في إطلاق الجمهورية الثانية ودستورها، كانت فعلا جماهيريا وتنظيميا في احتضان المقاومة كخيار وطني جامع، وكبند أساسي في بناء معادلات الوفاق الوطني. تصدّر هذا الحدث التاريخي مجاهدو حركة أمل في بيروت والضاحية والجنوب والبقاع بالشراكة مع سائر القوى الوطنية. وكان الائتلاف الواقعي على الأرض بين المناضلين من مختلف الفصائل في ذلك الزمن تحوّلا كبيرا في العلاقة بين القوى، التي سادت بينها في السابق منافسات وصراعات كثيرة، لكنها تلاقت في سياق الانتفاضة على إرادة واحدة، وبمرجعية واحدة وطنيا، تصدّرها الرئيس نبيه بري، الذي استطاع بخبرته وبوعيه أن يُسهم في لمّ الشمل الوطني وبناء إرادة مشتركة بين جميع الأطراف. وهو كان بذلك، الرمز الأول للانتفاضة ولما بعدها من خلال الدور التاريخي لهذا الحدث في إطلاق مسار بناء الدولة بعد حروب وانقسامات مدمّرة، ودورة تآكل حكمت البلاد لسنوات حتى مؤتمر الطائف. ويمكن القول إن بصمات الرئيس نبيه بري كانت قوية وساطعة، ولا تزال في هذه الصفحة الحاسمة من تاريخ لبنان، الذي دخل عهد الجمهورية الثانية بفضل انتفاضة شباط 1984 ونتائجها اللاحقة. وهي كانت التأسيس الفعلي لاتفاق الطائف ولدستور الجمهورية الثانية ومشروع إعادة بناء الدولة اللبنانية التي دمرتها الحرب.
الرئيس نبيه بري، الذي سطّر تلك الصفحة من تاريخ لبنان، هو اليوم من موقعه على رأس السلطة التشريعية، المؤتمن على وصايا تلك المرحلة، ولا سيما فكرة إعادة بناء الدولة وإصلاح المؤسسات، وهو الاستحقاق اللبناني المتجدّد، الذي يرعاه الرئيس نبيه بري من موقعه الدستوري والوطني.