هل يتفادى لبنان الفوضى والانحلال بتدابير استثنائيّة؟: د. عصام نعمان*
بلغ لبنان قاع التفكك والانحلال أو كاد. تشدّ على خناقه أحداث كارثيّة: انهيار مالي واقتصادي، جائحة كورونا وسلالاتها الفتاكة، افتضاح التدخلات الداخلية والخارجية في التحقيق الجنائي بشأن الأموال المنهوبة وتفجير مرفأ بيروت، وانسداد أبواب الخروج من أزماته المتناسلة بفعل نظام المحاصصة الطوائفيّة المتجذّرة.
آخر أزماته المستفحلة وليس أخيرتها العجز عن تأليف حكومة تخلف حكومة حسان دياب المستقيلة عقب تفجير وتدمير مرفأ بيروت وشطر من العاصمة قبل خمسة أشهر.
لماذا تعجز المنظومة المتحكّمة عن تأليف حكومة جديدة رغم مرور نحو أربعة أشهر على تكليف سعد الحريري تشكيلها؟
لخمسة أسباب:
الأول ظاهره قانوني يتعلق بتفسير المادة 53 من الدستور، وباطنه سياسي يتعلّق بمن له حق الفصل في تشكيل الحكومة وتحديد عدد أعضائها وتوزيع حقائبها: رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أم رئيس الحكومة المكلّف. ذلك أنّ المادة المذكورة تنطوي على نصّ ملتبس بشأن مرسوم تشكيل الحكومة الذي «يصدر بالاتفاق بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء».
الثاني شخصيّ مردّه عدمُ رغبة الرئيس عون وفريقه السياسي في التعاون مع الحريري لحمله على الاعتذار عن تشكيل الحكومة، بينما يرى الحريري وفريقه أن لا نصّ دستورياً يحدّد مهلة لتشكيلها.
الثالث سلطوي مردّه رغبةُ جبران باسيل، صهر رئيس الجمهورية، في خلافة عمّه عند خلوّ سدة الرئاسة ما يستوجب إناطة صلاحياتها وكالةً بمجلس الوزراء وفق المادة 62 من الدستور. طموح باسيل حمل الخصوم على الظنّ بأنّ الرجلين يعملان للإتيان بحكومة لهما فيها الثلث المعطل من مجموع عدد أعضائها (الفقرة 5 من المادة 65/ دستور) للسيطرة عليها وتوجيهها تالياً وفق ما يخدم مصالحهما. الحريري وفريقه السياسي يعارضان بقوة هذا التوجّه لدى عون وباسيل.
الرابع خارجي مردّه وجودُ ضغوط أميركيّة وسعودية على الرئيسين عون والحريري وحلفائهما لاستبعاد حزب الله عن تشكيلة الحكومة المقبلة الأمر الذي أحرج عون والحريري معاً لأسباب عدّة ليس أقلها افتقارهما إلى ميزان قوى داخلي يجيز استبعاد حزب الله.
الخامس واقعي مأساويّ يتمثّل بشيوع حال ومآسٍ من الحبوط والقنوط والفقر والشلل في صفوف اللبنانيين تحول دون قيام معارضة منظمة وفاعلة ضدّ أهل السلطة المتحكّمين بالبلاد والعباد منذ أكثر من 30 سنة والراضخ بعضهم للتدخلات الخارجية والرافض إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية مستحقة منذ عقود.
إذ ينحدر لبنان بوتيرة متسارعة إلى قاع التفكك والانحلال، ينهض سؤال: هل يمكن إنهاضه من سقوطه المريع، وكيف؟
لا غلوّ في القول إنّ المتشائمين كثر والمتفائلين قلّة. مع ذلك فإنّ القلّة من المفكرين والمناضلين الملتزمين يرفضون بإصرار الاستسلام للأمر الواقع ولا يتوانون عن ممارسة شتى وجوه التفكير والتدبير للخروج من الأزمة – المحنة. في هذا السياق، يمكن استخلاص ما توصّل إليه بعضهم من نتائج وتوصيات على النحو الآتي:
ثمّة اقتناع عميق لدى كثيرين بينهم بأن لا قدرة ولا جدوى في ظلّ نظام المحاصصة الطوائفي وأهله وثقافتهم وأخلاقهم وتقاليدهم الفاسدة لأيّ إصلاح أو تغيير، وأن لا مناص تالياً من ترك هذا النظام وأهله يتفكك ويتهاوى تسهيلاً لنشوء حال مغايرة في البلاد تسمح بإعادة تأسيس لبنان دولةً ووطناً.
ثمة مفكرون ومناضلون ونشطاء ملتزمون قضية إنهاض لبنان يعتقدون أنّ الاستنكاف عن العمل والنضال يترك البلاد والعباد مشاعاً سائباً للأشرار واللصوص من أهل السلطة كما لدول ناشطة للسيطرة على موارد بلاد العرب، وفي مقدّمها لبنان. لذا يرى هؤلاء انه، لإنهاء «حال المزيد من الشيء نفسه» يقتضي، رغم كلّ صعوبات المرحلة الراهنة، اعتماد الخيار النهضوي والعمل الجادّ لتحقيق متطلباته وأهدافه سلماً وتدريجاً، لئلا يلحّ الاضطرار إلى مواكبة الخيار الآخر الذي يبدو أكثر واقعية في الظروف الراهنة والمتمثّل باحتمال نشوء كيانات محلية نتيجةَ الفوضى وتفكك الدولة في شتى مناطق البلاد، تقودها قوى نافذة في نطاقها الجغرافي، بعضها وطني وبعضها الآخر موالٍ لقوى خارجية، عربية أو أجنبية.
الخيار الأول النهضوي يستوجب اتخاذ التدابير الآتية:
1 ـ تفعيل الجمهور الوطني وتعبئته لإطلاق موجة شعبية ضاغطة تحمل أهل السلطة على تقبّل إجراءات استثنائيّة، أهمّها تعويم حكومة حسان دياب المستقيلة (أو من يحلّ محلها) بمنحها الثقة مجدّداً في مجلس النواب على أساس بيان وزاري يتضمّن المحاور الآتية:
أ ـ تأمين ضرورات المعيشة الأساسيّة كالقمح والدواء والطاقة (الكهرباء والبنزين والمازوت) بعد ترشيد الدعم الحكومي ومراقبة تنفيذه، والارتقاء في مواجهة جائحة كورونا.
ب ـ تفعيل إجراءات التحقيق الجنائي في كارثة مرفأ بيروت وجرائم الأموال المنهوبة والأموال المحوّلة إلى الخارج بشكل مخالف للقانون.
ج ـ وضع قانون جديد للانتخاب على أساس لبنان دائرة واحدة، التمثيل النسبي، خفض سنّ الإقتراع الى الثامنة عشرة، تنفيذ المادة 22 من الدستور التي تقضي بانتخاب مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف، والضغط على مجلس النواب الحالي لإقراره في مدة أقصاها شهر من تاريخ إحالته عليه.
2 ـ في حال تعذّر تعويم حكومة حسان دياب أو تعذّر إقرار قانون الانتخاب الجديد، يُصار الى تفعيل الضغوط الشعبية على الحكومة القائمة، أياً تكون، بغية حملها على عرض قانون الانتخاب الديمقراطي وإقراره باستفتاء شعبي عملاً بنظرية الظروف الاستثنائية التي تقضي بأنّ الظرف الاستثنائي يستوجب تدبيراً استثنائياً.
3 ـ إجراء انتخابات لاختيار أعضاء مجلس النواب حسب قانون الانتخابات الجديد، على ان يقوم مجلس النواب المنتخَب على أساس وطني لاطائفي بوضع الأحكام القانونية اللازمة لانتخاب مجلس الشيوخ المختص بتمثيل الطوائف.
4 ـ يُخشى في حال تعذّر إنجاز التدابير 1 و2 و3 آنفة الذكر، أن تجد القوى السياسية النافذة نفسها مضطرة الى الإمساك بمقاليد السلطة والإدارة والأمن في مناطقها، وذلك على مستوى لبنان كله من الجنوب الى الشمال ما يستوجب مسارعة القوى الوطنيّة الى القيام بالآتي:
أ ـ إقامة جبهة وطنية فاعلة لتوجيه القوى النافذة وتصويب أدائها في مناطق سيطرتها لتأمين قوت الشعب وحاجاته الأساسية، والعمل في سبيل استعادة وحدة لبنان في إطار دولة مدنيّة ديمقراطية.
ب ـ الحرص على تأمين حرية وسلامة كلّ المناطق اللبنانية بعيداً عن تدخّل أي قوة خارجية، لا سيما العدو الصهيوني، في مناطق جنوب لبنان ووادي البقاع.
5 ـ الدعوة الى انتخاب مجلس تأسيسيّ على الأسس المحددة في قانون الانتخاب الديمقراطيّ الجديد، تكون مهمته الأساسية الحوار والتوافق على إقامة الدولة المدنية الديمقراطية المرتجاة على أسس حكم القانون، والعدالة، والتنمية، والثقافة النهضوية، ومقاومة العدو الصهيونيّ بكلّ الوسائل المتاحة.
هل من نهج آخر أفعل وأجدى لتفادي الفوضى والتفكك والانحلال غير اعتماد التدابير الاستثنائيّة الآنفة الذكر؟
*نائب ووزير سابق.
(البناء)