إشكاليات السياسة الخارجية الأميركية الجديدة (2): زياد حافظ*
الجزء الثاني: الملفّات الدولية
فما هي الملفات الخارجية التي ستشهد صراعاً بين مصالح المتدخلّين ومصالح القوى التي تريد التركيز على الملفّات الداخلية؟ ملامح السياسة الخارجية بدأت تتوضح بعد جلست الاستماع في مجلس الشيوخ لكلّ من بلينكن (وزارة الخارجية) وهاينز (مديرة الاستخبارات الوطنية DNI). الخلاصة الأساسية هي لا تغيير يُذكر في الجوهر عن سياسات أوباما وترامب الاّ في الأسلوب وطريقة التعاطي. سنعرض هنا بعض الملفّات وليست جميعها لضيق المساحة المتاحة.
فعلى الصعيد الدولي تأتي في المرتبة الأولى العلاقات مع كلّ من روسيا والصين. الإشارات الأولى التي صدرت عن عدد من رموز الفريق الانتقالي للرئيس المنتخب لا توحي بأيّ حلحلة مرتقبة في العلاقات مع روسيا. فلا ننسى أنّ معظم العاملين في الإدارة الجديدة كانوا في إدارة أوباما التي كانت معادية لروسيا. فالأزمة الأوكرانية فجّرتها إدارة أوباما ونائب الرئيس آنذاك، الرئيس المنتخب اليوم، والتي كانت له تدخّلات كبيرة في الشأن الأوكراني ناهيك عن شبهات الفساد التي رافقتها. من جهة أخرى لا ننسى أنّ مجمل الحزب الديمقراطي والدولة العميقة والإعلام الشركاتي المهيمن أمضى السنوات الأربع الماضية على شيطنة الرئيس ترامب واتهامه بالعمالة لروسيا. كما أنّ الأخيرة متهمة بالتدخل في انتخابات 2016 لصالح دونالد ترامب. وإذا أخذنا بعين الاعتبار بعض التصريحات لقيادات استخبارية داعمة لبايدن بأنّ الروس يكذبون لأنّ الكذب جزء أساسي من الحمض النووي الروسي نرى أنّ المناخ المرتقب داخل الإدارة الجديدة مناخ متشدّد تجاه روسيا. وما يعزّز ذلك التشاؤم هو أنّ المسؤولين المرتقبين في الإدارة الجديدة في الصف الثاني في الخارجية والدفاع والأمن القومي هم من المحافظين الجدد كفيكتوريا نيولند ومن المتدخّلين الليبراليين كـ كاثلين هيكس ووندي شرمان وجون فاينر كنائب مستشار الأمن القومي. وجميعهم لديهم ارتباطات وثيقة مع المجمع العسكري الأمني ومراكز الأبحاث ومن الجامعات الكبرى كما شرحناه في مقال سابق. وما لفت انتباه المراقبين أنه حتى الساعة لم يتمّ أيّ اتصال بين الإدارة الانتقالية والقيادة الروسية علماً أنّ هذا تقليد امتدّ طيلة العقود الماضية.
تراجع أميركي متعدّد الجوانب
لكن حقيقة الأمر هي أنّ القدرة التنافسية الأميركية تراجعت في السياسة والاقتصاد، وربما أهمّ من كلّ ذلك في الشأن العسكري كما شرحناه أيضاً في مقالات سابقة. فمواجهة روسيا تكون عبر إثارة ملف حقوق الانسان في روسيا وعبر نشر حزام صاروخي في الدول المجاورة وعبر إسقاط أنظمة مجاورة تتفاهم مع روسيا. بالمناسبة ورغم اتهام الحزب الديمقراطي الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالعمالة لروسيا فإنّ الرئيس الأميركي هو الذي فرض أكثر العقوبات على روسيا والتي كان قد بدأها سلفه باراك أوباما. ونقطة الخلاف الرئيسية الاستراتيجية هي ملف الغاز الروسي ودوره في تزويده للاتحاد الأوروبي بينما الخلاف على أوكرانيا يأتي في سياق محاولات توسع الأطلسي في أوروبا الشرقية. قضية الأمن التي يتمّ التلويح بها هي للتغطية على الهدف الرئيسي. ليس هناك أيّ دليل بأنّ روسيا تسعى لزعزعة الأمن والاستقرار الأوروبي بل العكس تسعى إلى أفضل العلاقات والتعاون مع الاتحاد الأوروبي.
هذا ما فهمته ألمانيا لكنها رضخت للضغوط الأميركية كما صرّح وزير خارجية ألمانيا السابق فرانك والتر ستنماير في تبرير رضوخ حكومته للإملاءات الأميركية عندما قال بوضوح إنّ ألمانيا متضررة اقتصادياً من تلك العقوبات غير أنّ السياسة لها القوّامة على الاقتصاد. لكن خلال الأشهر الماضية استطاعت ألمانيا أن تحدّ من غطرسة الولايات المتحدة فيما يتعلّق بمصالحها الاقتصادية مع روسيا والصين. فقد وافقت ألمانيا على تمديد أنبوب الغار الروسي (“تور ستريم 2) في المنطقة الاقتصادية التابعة لها في بحر البلطيق (كلّ يوم يتمّ مدّ كيلومترا من الأنبوب). كذلك الأمر حصل مع الجمهورية التشيكية لتمديد الخط البرّي “يوغال” الذي هو امتداد لـ “نور ستريم 2) على الحدود السكسونية الألمانية التشيكية. هذا يعكس مدى التراجع الأميركي عند الحليف الأوروبي ويقطع الطريق على الضغوط التي يمكن أن تصدرها الإدارة الجديدة.
من جهة أخرى تمّ التوقيع في 30 كانون الأول 2020 بين الصين والاتحاد الأوروبي على اتفاق يفتح باب الاستثمارات المتبادلة وذلك رغم معارضة الولايات المتحدة ورغم الذرائع التقليدية حول حقوق الإنسان التي كانت تُرفع بوجه الصين لمنع أيّ تقارب معها. هذه إشارة أخرى أنّ أوروبا الغربية شعرت بالضعف الأميركي وبدأت تفكّر بأولوية مصالحها. ولم يكن الاتحاد الأوروبي ليقدم على تلك الخطوة لولا الموافقة لكلّ من ألمانيا وفرنسا.
من ضمن الملفّات العالقة بين الولايات المتحدة وروسيا ملف أوكرانيا وخاصة شرق أوكرانيا (الدومبسك) وضمّ شبه جزيرة القرم، وملف دول القوقاز في جورجيا وناغورنو كراباخ، وانتشار السلاح الأطلسي في دول البلطيق وبولندا. ومؤخراً حاولت الولايات المتحدة خلق القلاقل في بيلاروسيا إلاّ أنها فشلت في ذلك. فالتقارب الروسي البلاروسي يشتدّ ولا نستبعد انضمام بلاروسيا على الاتحاد الروسي ما يشكّل صفعة مدوية للإدارة الأميركية. وبلاروسيا اليوم موكّلة في مواجهة كلّ من بولندا ودول البلطيق نيابة عن روسيا. ويُضاف إليها ملف سورية والملفّ النووي مع إيران وطبعاً المعاهدات في الشأن الصواريخ الباليستية المتوسطة المدى. في سياق ملف المعاهدة التي خرجت عنها الولايات المتحدة في موضوع الصواريخ الباليستية لم تعد روسيا متمسّكة بها.
حالة الإنكار متحكّمة في عقل النخب الحاكمة
لا ندري ماذا يمكن أن تقدّم الولايات المتحدة في كلّ هذه الملفّات غير التراجع عن مواقفها التصعيدية الذي سيكرّس تراجع نفوذها. لكن ليس في المزاج الحالي في الإدارة الانتقالية جهوزية لأيّ بادرة لتقديم أيّ تنازل. وبما أنّ حالة الإنكار لذلك التراجع متحكّمة في عقل النخب الحاكمة في الإدارة المقبلة على قاعدة “الاستثنائية الأميركية” و”قدرها المتجلّي” وبغياب أيّ دليل نظري أو ملموس للإقرار بذلك التراجع، فما يمكن أن نتوقّعه هو استمرار النبرة العالية والمعادية في مخاطبة روسيا دون أن تترجم بمواجهة على الأرض. فنظام العقوبات على روسيا مستمرّ وهو بدأ في عهد أوباما ولا تستطيع الإدارة المقبلة رفعها دون مقابل ملموس لتسويقه في المشهد الداخلي. فليس هناك ابداع في التفكير في الجانب الأميركي والجانب الروسي لا يعتبر نفسه ملزما بتقديم تنازلات خاصة أن لا ثقة بتعهدّات الولايات المتحدة. لذلك نشهد تزايد عدم الاكتراث في الجانب الروسي لما يمكن أن يصدر عن إدارة بايدن طالما أنّ أفق المواجهة المفتوحة المسلّحة مسدود. فروسيا استطاعت التكيّف مع العقوبات بل حوّلتها إلى فرص اكتفاء ذاتي حرّرها من الابتزاز الأميركي. فالعقوبات نجحت فقط في زيادة عزلة الولايات المتحدة في العالم وخاصة عند حلفائها الأوروبيين. والنخب في روسيا ترى كما نرى نحن أنّ الإدارة الجديدة ستكون منصبّة على الملفّات الداخلية لخطورتها وتعقيداتها وبالتالي لا تعتبر أنّ باستطاعتها التفاعل الدائم في الملفّات الخارجية.
لكن هذا لا يعني أنّ التواصل مع روسيا خارج الاحتمالات. فإذا كانت الضرورة امّ الاختراعات فهي أيضاً أمّ التفاهمات. في هذا السياق أعلن الرئيس الروسي في رسالة للرئيس المنتخب أنه يأمل بعلاقات ودية على قاعدة الندّية والاحترام المتبادل، وهذه إشارة إلى أنّ العودة الى أسلوب التعالي لم يعد مقبولاً. من جهة أخرى كان ردّ وزير الخارجية المسمّى أنطوني بلينكن أنّ في ذروة التنافس النووي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وفي ظلّ الخطر النووي الوجودي المتمثّل بآلاف الصواريخ الباليستية النووية الموجهة ضدّ كلّ من البلدين كانت مجالات التعاون في العديد من الملفات الساخنة ممكنة. وبالتالي يمكن التطلّع إلى “فرص تعاون” لضبط إيقاع التوترات كي لا تؤدّي إلى مواجهات لن يخرج أحد سالماً منها. هل هذا يعني أنّ مناخ التسويات سيكون قائماً؟ ليس بالضرورة، فالحالة الأكثر واقعية هي أن لا تسويات كبرى ولا مواجهات كبرى وكلّ شيء ممكن تحت ذلك السقفين. في الخلاصة يمكن القول إنّ سقف “التفاهم” الممكن مع روسيا لا يتجاوز حدود ربط النزاع إلى ان تتبلور موازين قوّة جديدة وهذا لن يحصل في المدى المنظور أيّ في ولاية الإدارة الجديدة.
قد يسأل المرء لماذا لا تسوية؟ الإجابة البسيطة هي أنّ روسيا لا ترى أيّ مبرّر لتسوية الأمور مع طرف برهن دائماً أنه لا يحترم المعاهدات فما بال التسويات! كما يرى الروسي أنّ الأميركي في حالة ضعف بنيوي قد لا ينجو منها وبالتالي تقديم تنازلات لدولة مصيرها مجهول قد لا يكون مبرّرا. في المقابل، يرى الطرف الأميركي إذا كانت موازين القوّة ليست لصالحه في المرحلة الحالية فما عليه إلاّ أن يعدّلها لمصلحته وبالتالي لا داعي للتنازل عن أيّ شيء جوهري قد يشكّل متن التسوية. وتعتقد النخب الحاكمة في الولايات المتحدة أنّ قدرها هو أن تقود العالم وأن استثنائيتها ستمكّنها من ذلك. ليس هناك استعداد للإقرار بأنّ الولايات المتحدة دخلت مرحلة التراجع الاستراتيجي بل حتى الانهيار الداخلي المرجّح وبالتالي ستكون السردية السائدة عند تلك النخب بأنّ الولايات المتحدة قدر على العالم بغضّ النظر عن الصعوبات التي تلاقيها في المرحلة الحالية.
لماذا لا مواجهة…؟
والسؤال الآخر لماذا لا مواجهة؟ الإجابة هنا أنّ الطرفين يدركان جيّداً أنّ المواجهة تعني في آخر المطاف نهاية المعمورة في دقائق محدودة! لن تكون الحرب المقبلة ممتدّة على مدى سنوات كما حصل في الحربين العالميتين ولا حتى في الحروب الإقليمية. ستكون مرتبطة بمدة وصول الصواريخ الباليستية إلى أهدافها وهنا نتكلّم عن دقائق وليس ساعات! لكن ما هو البديل عن المواجهة وعن التسوية؟
البديل هو توتّرات محدودة في المكان والزمان تحدّده الظروف الموضوعية والإقليمية المتغيّرة. لكن هذا يفرض تعاوناً دقيقاً لمنع الانزلاق الذي قد يؤدّي إلى مواجهة شاملة لا يريدها أحد. في المقابل، تعدّد اللاعبين من جهة وعدم وجود أيّ قوّة قادرة بمفردها على ضبط الإيقاع تجعل ذلك الأمر في غاية الصعوبة. من هنا نفهم دور وقيمة المحور حيث كلّ مكوّن له لا قدرة على التحكّم مهما كانت قدراته الذاتية. لكن المحور يعطي قيمة مضافة لتلك القدرات وبالتالي المحور هو الذي سيكون ضابط الإيقاع وليس القطب. هنا يبرز دور التجمّعات أو المحاور الإقليمية. أصبحنا في عالم متعدّد المحاور وليس في عالم متعدد القطبية.
إذا أردنا تلخيص المشهد الدولي بين المحورية المتنافسين نرى أنّ المحور الأميركي في تراجع استراتيجي قد يصل إلى الأفول والانهيار ولكنه يقوم بأعمال طابعها هجومي تكتيكي واستعراضي لا يغيّر أيّ شيء في موازين القوّة على الأرض. في المقابل فإنّ المحور الآخر الروسي الصيني ومعه محور المقاومة في حال صعود استراتيجي تتخلله أعمال طابعها تكتيكي دفاعي تحصّن موازين القوّة التي أوجدتها. والمحور المقاوم للهيمنة الأميركية لا يعتقد أنّ مواجهة تكتيكية ضرورية في المرحلة الراهنة بسبب التراجع الاستراتيجي للمحور الأميركي. عامل الوقت يعمل لصالح المحور المقاوم للهيمنة. لذلك لا نستبعد مرحلة استقرار هشّ للغاية تسوده التوترات بين فترات وجيزة من الهدوء. في رأينا، موازين القوّة التي تتغيّر لصالح المحور المناهض للهيمنة الغربية تشمل أيضاً البنى الثقافية والفكرية. وتشمل أيضاً المنظومات السياسية حيث النيوليبرالية الغربية وصلت إلى طريق مسدود وأنّ كلّ القرارات التي تتخذها النخب الحاكمة في الولايات المتحدة وفي الغرب عموما هي هروب إلى الأمام من الاستحقاقات الداخلية البنيوية التي تواجه كلّ الدول. إلى أن يتبلور نظام سياسي اقتصادي يأخذ بعين الاعتبار التحوّلات الجذرية التي حصلت في المجتمعات وخاصة الفجوات الاقتصادية والاجتماعية فإنّ سمة المشهد العام سيكون التوتر الداخلي في دول الغرب العامل المؤثر على سياساتها الخارجية. هذه الملاحظات تنطبق على كافة الملفات الخلافية بين الولايات المتحدة ومنافسيها.
وفي ما يتعلّق بالملفّ الصيني فهناك تياران متصارعان على ما يبدو داخل قيادات الحزب الديمقراطي. فمن جهة، هناك إرث الرئيس السابق باراك أوباما الذي كان صاحب نظرية التحوّل إلى الشرق لمواجهة الخطر الصاعد الذي تمثّله الصين. وهذا التوجّه إلى الشرق يستعمل سردية سياسية هي حماية حقوق الانسان التي تنتهكها الحكومة الصينية. فالولايات المتحدة بحاجة إلى مبرّر “أخلاقي” للتدخل في الشأن الداخلي في الصين سواء في قضية التيبت أو هونغ كونغ أو المسلمين الأويغور! لكن بعد المشهد الذي قدّمته النخب الحاكمة في 6 كانون الثاني/ يناير في التعامل مع الجماهير الغاضبة وتنديد النخب بهذه المظاهرات وصلت عند بعض القيادات إلى المطالبة بتقويض الحرّيات العامة يصعب عندئذ طرح ذلك الخطاب المندّد للحرّيات في الدول التي تريد الخضوع للمشيئة الأميركية.
الهدف الفعلي لسياسة الولايات المتحدة هو تقويض القدرات التنافسية للصين خاصة في الميدان التكنولوجي والذكاء الاصطناعي وذلك عبر فرض العقوبات عليها (وهنا سيتمّ التفتيش عن حجج جديدة لذلك!) وكبح صعودها العسكري لمنع تمدّد نفوذها في شرق وجنوب آسيا. وفي سياق الصراع الذي ذكرناه بين جماعة المتدخلين وجماعة “الواقعيين” مسألة التعامل مع شركات التواصل الصينية كهواوي التي كانت هدفاً للعقوبات في إدارة ترامب. فإذا أرادت إدارة بايدن التخفيف من حدّة الصراع مع الصين فستقوم بتسوية لملف هواوي على الأقلّ في بعده القانوني. لكن هل هذا يستقيم مع مصالح الشركات الأميركية المتضرّرة من التنافس الصيني وهي التي دعمت إلى أقصى الحدود وصول بايدن إلى الرئاسة؟ هنا نرى مدى التناقض الموجود داخل الإدارة. هنا تلتقي سياسة أوباما مع سياسة ترامب في ضرورة مواجهة النفوذ الصيني الصاعد وضرب مشروع الطريق الواحد/ الحزام الواحد. لكن قدرات الولايات المتحدة مهما كان الفريق الحاكم محدودة للغاية ولا تستطيع تغيير المعادلات التي فرضتها التحوّلات.
ومن جهة أخرى هناك “جماعة بايدن” التي عقدت صفقات مثيرة للالتباس والشبهات مع شركات صينية. ويشاركه في ذلك عدد كبير من قيادات الحزب الديمقراطي في صفقات مشبوهة مع مؤسّسات صينية حكومية كالشيخة السابقة لولاية كاليفورنيا بربرا بوكسر التي أصبحت وكيلة شركة صينية حكومية مختصة بالتنصّت، أو زوج الشيخ الحالية دايان فاينشتين الذي له علاقات وثيقة مع الشركات الصينية، أو النائب أريك سوالوال من كاليفورنيا المتهم بعلاقات جنسية مع ضابطة من الاستخبارات الصينية! فالرئيس سيكون بين مطرقة فريق أوباما الذي يريد محاصرة الصين وكبح صعودها وسندان المصالح الخاصة العائدة لعائلة بايدن ولعدد من كبار المسؤولين في الحزب الديمقراطي في تعاملهم مع الصين. الحزب الجمهوري سيثير دون أيّ شكّ الفضائح التي بطلها هنتر بايدن نجل الرئيس وجيمس بايدن شقيق الرئيس. فهما موضوع تحقيقات يقوم بها المكتب الاتحادي للتحقيقات (أف بي أي) التي رفض الكشف عنها قبل الانتخابات وليم بار وزير العدل المستقيل في إدارة ترامب والتي كان بإمكانها تقويض فرص فوز بايدن في الانتخابات الأخيرة، ما يعزّز نظرية أنّ الدولة العميقة بكافة مكوّناتها أرادت التخلّص من دونالد ترامب وقد نجحت في تعطيل ولايته ونجاحه في الانتخابات.
من محاولات محاصرة الصين التي أطلقها أوباما مشروع الشراكة في المحيط الهادئ ((Trans Pacific Partnership/TPP التي كانت تهدف إلى إيجاد فضاء اقتصادي كبير شبيه بالسوق الأوروبية المشتركة قبل أن تصبح الاتحاد الأوروبي، وذلك دون مشاركة الصين. يتماثل هذا المشروع مع مشروع أوروبي يقصي روسيا! وهنا الخطأ الجيوسياسي الفادح لأنه يتنافى مع الجغرافيا الثابتة والتاريخ المتغيّر، فكيف يمكن تصوّر تجمع آسيوي دون الصين وكيف يمكن أقصاء روسيا من أوروبا؟ لكن أول قرارات ترامب عند دخوله البيت الأبيض كان وأد مشروع الشراكة في المحيط الهادئ. والصين استطاعت أن تعقد في خريف 2020 اتفاقاً اقتصادياً مع دول جنوب شرق آسيا يلغي فعلياً أيّ إمكانية محاصرة الصين اقتصادياً. عنوان هذا التجمّع الاقتصادي الجديد هو اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP) الذي وقّع في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 في اجتماع قمة لرؤساء دول المنطقة كالصين واليابان وكوريا الجنوبية والهند وسائر دول جمعية دول الجنوب الشرقي الاسيوي (ASEAN).
نفوذ الصين الاقتصادي أهمّ…
وتعتبر مؤسسة راند كوربوريشن، وهي مؤسسة أبحاث تابعة للبنتاغون، أنّ نفوذ الصين الاقتصادي أهمّ من النفوذ الأميركي في منطقة المحيط الهادئ وآسيا. كما أنّ دول جمعية جنوب شرق آسيا تعطي الأولوية للاعتبارات والمصالح الاقتصادية على حساب الاعتبارات الأمنية. والنفوذ الاقتصادي الصيني يضعف النفوذ العسكري الأميركي وفقاً لدراسة مؤسسة راند خاصة أنّ دول تلك المنطقة لا تعتقد أنّ النفوذ العسكري الأميركي يوازي النفوذ الاقتصادي الصيني. وهناك أيضاً قناعة عند تلك الدول وفقاً للدراسة المذكورة أنّ التزام الولايات المتحدة تجاه المنطقة مشكوك بأمره. بناء على تلك الاعتبارات التي جاءت في الدراسة المذكورة ستكون سياسة إدارة بايدن معقّدة للغاية خاصة أنّ حماس دول المنطقة للاصطفاف معها سيكون ضعيفاً.
من جهة أخرى أقدمت إدارة ترامب في أيامها الأخيرة على تسميم الأجواء بين الولايات المتحدة والصين عبر رفع جميع القيود على تايوان. من الواضح أنّ ذلك الإجراء سيغضب الصين ويوتر العلاقات مع الإدارة الأميركية الجديدة. والسؤال كيف يمكن لإدارة بايدن إعادة القيود التي رفعتها إدارة ترامب ما يعني أنّ ليس هناك من استمرارية في القرار الخارجي فيضعف الثقة بأي تعهّد أميركي. فقرارات أيّ أدارة تصبح معرّضة للنقض من قبل إدارة تليها وهذا من إرهاصات السقوط. لذلك نعتقد أنّ محاولات إدارة بايدن لن تتجاوز مرحلة ربط النزاع لتضارب المصالح بين المتدخلّين والواقعيين مع ترجيح الكفّة لصالح المتدخلين وضعف الواقعيين بسبب شبهات الفساد التي تحيط بالرئيس المنتخب وعائلته.
بعض الخطوات “الإيجابية” للإدارة الجديدة ستكون في العودة إلى اتفاق المناخ ومنظمة الصحة العالمية والمطالبة بالعودة إلى الاتفاق الباليستي. لا كلفة هنا تذكر بل مادة للدعاية الإعلامية لتحسين صورة الولايات المتحدة. كما أنّ تصريحات بلينكن بضرورة “التشاور” مع الحلفاء خطوة نحو إعادة الاعتبار إلى “الدبلوماسية” التي لم يكن يؤمن بها سلفه مايك بومبيو. لكن ما قيمة الدبلوماسية إن لم ترفقها أفعال تأخذ بعين الاعتبار مصالح مختلف الفرقاء؟ لم تصل الولايات المتحدة حتى الساعة إلى الإقرار بذلك فهي مستمرّة في جهودها لتحقيق أهدافها في السيطرة والهيمنة لكن بإمكانيات أقلّ بكثير ما يؤهّلها بذلك.
*باحث وكاتب اقتصادي سياسي
والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي
(البناء)