بين الجائحة والكارثة الاقتصادية
غالب قنديل
يستغرق اللبنانيون في مجابهة جائحة كورونا وتداعياتها. بينما الوضع المعيشي والاقتصادي يزداد تدهورا وينذر بالمزيد. في حين تراوح الوصفات الحكومية والسياسية المتداولة في حدود المسكّنات والعلاجات الموضعية. ويغيب عن النقاش والاهتمام أيّ بحث جدي في الحلول الجذرية والمخارج الممكنة من كارثة محدقة صحيا واجتماعيا إذا تمادى الانهيار.
أولا: إن الوضع اللبناني يطرح على الصعيدين الاقتصادي والمعيشي مشكلات وتحديات كبرى، لم تحظ بالاهتمام، وهي موضوعة خارج النقاش الجدّي، أو البحث في حلول جذرية، تنقذ البلد، وتوقف زحف الانهيار الشامل. فالأزمة القائمة ليست عارضة أو عابرة مرتبطة بجائحة كورونا، التي كانت سابقة لها مؤشرات التدهور الاقتصادي والاجتماعي. وزاد الإقفال القسري نتيجة الوباء من تفاقمها وضاعف من وطأة نتائجها وانعكاساتها الاقتصادية والمالية، وبالتالي المعيشية.
تتحمل الدولة فوق عجزها المتراكم أعباءً مضاعفة فرضها التعامل مع الوباء، والعمل المطلوب لمنع حلول الكوارث الصحية والاجتماعية. فالخزينة تتحمّل أكلاف الإجراءات والتدابير الطارئة، ونتائج الثغرات والخطايا، التي يقود اليها عقل الاستهتار اللبناني المجسّد في خفة السلوكيات العامة لغالبية المواطنين، بصورة فاقمت المخاطر ووسّعت انتشار الوباء، وزادت من أعباء الخزينة العامة في تحمّل الأكلاف الوقائية والعلاجية معا.
ثانيا: إن العطب البنيوي في مجتمعنا، هو التحلل من المسؤولية العامة عند غالبية موصوفة من اللبنانيين، أظهرت معدلات مرتفعة من الاستهتار والسلوك اللامسؤول، ومكّنت الوباء من تسجيل معدلات مرتفعة بسرعة قياسية بفعل الإصرار على ممارسة عادات لا تنسجم والظرف الاستثنائي، الذي فرضته الجائحة. وحيث ذهبت هباءً جميع المناشدات والتحذيرات، وكانت الصيلة تزايد أعداد المصابين بمعدلات مرتفعة في زمن قياسي مقارنة ببلدان أخرى. والحقيقة أن الاستهتار والتحلّل من تدابير الوقاية كان نتيجة نزعة فوضوية متأصّلة في شعبنا، ولا يمكن تبريره كالعادة بالتقصيرات الحكومية الموجودة فعلا. فوسائل الإعلام العامة والخاصة لم تقصّر في التحذير والتّنبية، ولا في بثّ الإرشادات، لكن الاستهتار شكّل مزاجا جاهَرَ به قسم من اللبنانيين، نحمّله مسؤولية الإصابات التي سجلها الوباء، بما جلبته من أضرار ومن أذى ومن مخاطر لبقية اللبنانيين والمقيمين في لبنان.
إن علّة التحلّل الفردي من المسؤولية العامة والاستهتار، هي مرض لبناني قديم. وقد ظهر بأسوأ أشكاله وبأفدح نتائجه مع الجائحة، التي لسوء حظ اللبنانيين، تزامنت والانهيار الاقتصادي والمالي.
ثالثا: يستشعر اللبنانيون في هذه الأزمة أهمية المؤسسات العامة ودورها في حماية حقّهم في الحياة. والمعضلة أن هذه المؤسسات منهكة وضعيفة وفاقدة لقدرات كثيرة بسبب ما تعرّضت له فكرة الدولة من استنزاف وتآكل، ونتيجة شحّ الإمكانات، بل وانعدامها أحيانا.
إن كان من عبرة ينبغي الخروج بها من هذه المحنة، التي قد يطول أمدها، هي أن إنقاذ لبنان واستعادة عافيته اقتصاديا واجتماعيا مرتبط بإعادة بناء الدولة ومؤسساتها على أسس جديدة. وهو ما يُفترض أن يشغل مركز الاهتمام عند جميع اللبنانيين، وسائر الجهات السياسية الوطنية المعنية بإنقاذ البلد. وينطوي مثل هذا الاستحقاق على إعادة النظر بهيكلية النظام اللبناني ومؤسساته العامة الاجتماعية والاقتصادية والصحية. بعدما تكشّف حجم الاهتراء، الذي يمثّل عبئا خطيرا على المناعة الوطنية، وخرقا تَنفَذُ منه جميع التهديدات، وبالتالي يفاقم من المخاطر، التي تعصف بالبلد. وهذا ما يجب أن تتّجه اليه العقول والأنظار، وأن يغلب الاهتمام السياسي في كيفية مجابهته، وصياغة برنامج إنقاذي مواكب للحاجات وللضرورات الراهنة.
إن النهوض من الكارثة الراهنة التي تغرق لبنان ليس مستحيلا، لكن المطلوب تفكير جديد، وأسلوب جديد في مقاربة المشكلات والتعامل معها، وقبل ذلك بناء الإرادة وبلورة المشروع.