بوتين يُطلق محادثات الحلّ النهائي: أرمينيا وآذربيجان وجهاً لوجه: محمد نور الدين
لا يَدَ تعلو اليد الروسية في جنوب القوقاز، وتحديداً في تسيير العلاقات بين أرمينيا وآذربيجان. هذا ما أوحت به قمّة موسكو التي جمعت، قبل يومين، زعيمَي البلدين المتخاصمَين على طاولة الرئيس فلاديمير بوتين. قمّةٌ لا يزال من المبكر معرفة مخرجاتها، وإن كان الإعلان الذي خرج، بعد ساعاتٍ أربع، تَركّز، في مجمله، على الجانب الاقتصادي للعلاقات الناشئة بين الجانبين. إلّا أن اللقاء الثلاثي، الذي طوى بانعقاده ذكرى شهرين على انتهاء الحرب حول إقليم ناغورنو قره باغ، سيُمثّل، من دون شكّ، أساساً لمحادثات الحلّ النهائي
على غير ما هو متوقّع، انعقدت في موسكو، أول من أمس، قِمَّة ثلاثية ضمّت رئيس روسيا فلاديمير بوتين، ورئيس آذربيجان إلهام علييف، ورئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان. قِمَّةٌ جاءت بعد مضيّ شهرين بالتمام على توقيع اتفاق وقف إطلاق النار الذي أنهى الحرب بين باكو ويريفان على إقليم ناغورنو قره باغ. مردُّ أهمية هذه القمّة أمران: أوّلاً، كونها الأولى المباشرة بين زعيمَي آذربيجان وأرمينيا برعاية الرئيس الروسي، إذ أُقرّ اتفاق التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي بعد مشاورات هاتفية ثنائية جمعت بوتين إلى كلٍّ من علييف وباشينيان. مع ذلك، لم يلتقِ الرجلان ثنائياً على هامش قِمَّة موسكو، ولم تعكس الصور المسرّبة أيّ مصافحة مباشرة بينهما. كما لم يجلسا إلى الطاولة البيضاوية وجهاً لوجه، بل جنباً إلى جنب، وقبالتهما جلس بوتين. لاحظ المراقبون أن باشينيان كان يضع إلى جانبه على الأرض حقيبة سوداء، لعلّها ممتلئة بالملفات الكثيرة لأزمة بلاده مع آذربيجان، فيما لم يصطحب علييف معه أيّ حقيبة أو ملف. وثانياً، أنها انعقدت في موسكو تحديداً، وبرعاية الرئيس الروسي، وهو ما يؤكِّد، مرّة أخرى، حرص روسيا على أن تظهر بأنها المُمسِكة الوحيدة والفعلية بملف العلاقات بين آذربيجان وأرمينيا، وإذا كان من دورٍ لأطراف أخرى، مثل تركيا، فهو دور مساعد أو مكمِّل أو استلحاقي، ولكن ليس أساسياً.
تابع المراقبون، ولا سيما في الشارع الأرميني، احتمالات انتهاء القمّة بالتوقيع على اتفاقات جديدة. وهو ما أثار حساسية وتوتّراً في يريفان، خشية أن يوقّع باشينيان على اتفاق يشبه ذلك الذي جرى توقيعه في تشرين الثاني الماضي لوقف الحرب. على هذه الخلفية، شهدت العاصمة الأرمينية تظاهرات واحتجاجات عشيّة توجّه باشينيان إلى موسكو، هدفت إلى ثني هذا الأخير عن تقديم تنازلات إضافية. تظاهراتٌ شاركت فيها الناطقة الرسمية باسم باشينيان نفسه، ماني كيفوركيان، فيما تَصدّر وزير العدل السابق، روبن ماليكيان، المحتجّين، معتبراً أن قمّة موسكو ستُعدّ لاتفاق جديد مذلّ لأرمينيا. لكن وزير العدل الحالي، رستم باداسيان، قابل المتظاهرين أمام وزارته، ونفى أيّ نية لعقد اتفاق سريّ. كذلك، تجمّع بعض أفراد الجالية الأرمينية في موسكو أمام سفارة بلادهم، حيث رفعوا شعارات معادية لباشينيان، ولافتات عُلِّقت على السياج المحيط بالممثلية الدبلوماسية، كُتبت عليها عبارات مثل: “تَوقّف يا باشينيان”، و”نيكول التركي“.
اقتصر الإعلان الموقَّع على تأليف لجان وزارية لتنشيط الحركة الاقتصادية في ناغورنو قره باغ
ربّما أدرك باشينيان خطورة التوقيع على أيّ تنازلات جديدة. لكن المفاجأة كانت أن القمة انتهت فعلاً بتوقيع إعلان. وعلى ما يبدو، فقد تحسّب رئيس الوزراء الأرميني لردود الفعل، فاقتصر الإعلان على تأليف لجان وزارية لتنشيط الحركة الاقتصادية في ناغورنو قره باغ تحديداً، من دون التطرّق إلى أيّ خلافات سياسية أو قانونية. القمّة التي استمرت أربع ساعات، لا بدّ أنها ناقشت، على امتداد هذا الوقت الطويل، الوضع السياسي في قره باغ، والعلاقات بين باكو ويريفان، واستكشفت آفاق الحلّ النهائي لمشكلة الإقليم. وما غاب عن إعلانها ربّما حضر في تصريحات الزعماء الثلاثة؛ فالرئيس الروسي تحدّث عن أن الاتفاق الذي رعته بلاده حول قره باغ تمّ تنفيذه بالفعل، وأن القوات الروسية الموقّتة اتخذت مواقعها في المناطق المحدَّدة وفق الاتفاق. ووصف بوتين القمّة بأنها مهمّة ومفيدة، ولا سيما أنها ركّزت على تطوير المشاريع المتعلّقة بالبنية التحتية، والروابط الاقتصادية لقره باغ. وورد في الإعلان أن مجموعة عمل ستتألف من نواب رؤساء الحكومة في البلدان الثلاثة، ينضمّ إليها الخبراء في المجالات الاقتصادية، على أن تجتمع في 30 كانون الثاني/ يناير الحالي، تمهيداً لتقديم مقترحاتها لفتح طرق المواصلات عبر آذربيجان وأرمينيا في مهلة أقصاها الأول من آذار/ مارس المقبل، لكي يتمّ التوقيع عليها. ورأى بوتين أن الاتفاقات الموقّعة تصبّ في مصلحة الشعوب الروسية والآذربيجانية والأرمينية.
واعتبر إلهام علييف، من جهته، أن اللقاء مهمّ لاستمرار التنمية الاقتصادية بشكل آمن في المنطقة، لافتاً إلى أن الإعلان الموقَّع يعكس إيمان آذربيجان ورغبتها في حلّ الأزمة، خصوصاً أن اتفاق وقف النار يدعو إلى إزالة كلّ العقبات أمام فتح طرق المواصلات. وهذا سيسرّع في تنمية المنطقة، ويُرسّخ الأمن فيها، وسيكون في مصلحة الدول الثلاث، وتلك المجاورة وشعوبها، على أن تظهر النتائج قريباً. وأشاد علييف بحسن تطبيق الاتفاق، على رغم بعض الحوادث غير المؤثّرة التي وقعت، قائلاً إن هذا يعزّز الإيمان بأن الاشتباكات التي حصلت أصبحت من الماضي ويجب التفكير في المستقبل. أمّا باشينيان، فرأى أن الخلافات حول قره باغ لم تُحلّ بعد، لأن ذلك يتطلّب العمل على مشكلات كثيرة جداً، منها تلك التي توجب إيجاد حلّ للوضع القانوني لقره باغ. وأكّد أن المباحثات ستستمرّ في إطار “مجموعة مينسك” التابعة لـ”منظمة الأمن والتعاون الأوروبي”، مشيراً إلى أن مسألة الأسرى لم تُحلّ، ولم تُطبَّق المادة الثامنة من اتفاق وقف النار حول الأسرى. وأولى باشينيان أهمية للإعلان الذي تمّ توقيعه في القمّة، واصفاً إيّاه بأنه سيُغيّر الوجه الاقتصادي للمنطقة، وسيَضمن أمناً أكبر لقره باغ، معتبراً أن المشكلات لن تُحلّ كلها في لقاء واحد، ولا بدّ من مواصلة العمل.
وبعد التوقيع والتصريحات المشتركة، عقد بوتين اجتماعَين منفصلَين مع علييف وباشينيان. وأشار رئيس آذربيجان، بعد الاجتماع، إلى أن فتح طرق المواصلات في قره باغ له أهمية كبيرة جداً. وقال: “(إننا) سنصل عبر جمهورية نخجوان ذات الحكم الذاتي إلى الأسواق التركية، وفي الوقت نفسه سيتمّ وصل روسيا وتركيا بخطّ سكة حديد”. وأضاف علييف أن آذربيجان ستتّصل بنخجوان بعد ثلاثين سنة. كما لفت إلى أنه سيكون في إمكان أرمينيا أن تتّصل بروسيا وإيران بخطّ سكة حديد عبر الأراضي الآذربيجانية. بدوره، شدّد بوتين على أن الإعلان الذي تمّ توقيعه مهمّ إلى أقصى حدّ، إذ يعكس الرغبة في إيجاد حلّ على المدى الطويل للمشكلات. وبذلك، يكون الجميع في انتظار نتائج اجتماع مجموعة العمل الاقتصادية، لتبدأ على الأرجح، بعد الأول من آذار/ مارس المقبل، المحادثات السياسية والقانونية الحاسمة لحلّ واحدة من أعقد المشكلات في القوقاز.
(الاخبار)