أميركا تتمشرق وتتمزّق… ماذا بعد؟: د. عصام نعمان*
ينطوي المشهد الأميركي اليوم على كابوس وعرس. هو كابوس ملايين المواطنين الذين يعانون حدثاً سياسياً دموياً غير مسبوق في حياتهم: أن يقتحم متظاهرون مسلحون بدعوةٍ من رئيس البلاد مبنى الكونغرس بما هو مقرّ السلطة التشريعية ويمعنون فيه تخريباً وبالمشرّعين المذهولين تنكيلاً وتقريعاً، ويشتبكون مع رجال الشرطة فيقع بين الطرفين عشرات القتلى والجرحى.
قيل في وصف الحدث الجلل إنه يعادل في خطورته الهجوم الياباني الغادر على قاعدة بيرل هاربر الأميركية أثناء الحرب العالمية الثانية. حتى الرئيس السابق، بطل الحرب الوحشية على العراق، جورج بوش الابن، وصفه بأنه «حالة تمرّد تليق بجمهوريات الموز».
دونالد ترامب الذي كان حضّ أنصاره على التوجّه الى مبنى الكونغرس لمطالبة نائبه مايك بنس المترئس جلسته التشريعية بالتدخل لعكس مسار الهزيمة، استثار تنديداً شديداً في الداخل من الرؤساء والقادة الديمقراطيين والجمهوريين، وفي الخارج من رؤساء الدول والحكومات الصديقة والمعادية، ومن الصحف الكبرى وشتى وسائل الإعلام في الشرق والغرب.
لعلّ ذروة محنة ترامب الشخصيّة تجلّت في موقف القطب الاقتصادي العالمي وحليفه الواسع النفوذ، مالك شبكة «فوكس نيوز» التلفزيونية وصحيفة «وول ستريت جورنال»، روبرت مردوخ، الذي دعاه في مقال افتتاحيّ الى تحمّل مسؤولياته والاستقالة.
غير أنّ المشهد الأميركي عرسٌ لخصوم ترامب الذين رأوه اخيراً يرحل مهزوماً، ولو مؤقتاً. ذلك أنه أعلن عدم مشاركته في حفل تسلّم جو بايدن مقاليد الرئاسة لوجوده في منتجعه بولاية فلوريدا، لكنه وعد أنصاره بالعودة اليهم رئيساً في انتخابات 2024!
قادة الحزب الديمقراطي لم يكتفوا بهزيمته. كبيرتهم رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي دعت إلى عزله وكشفت أنها «تحدثت الى رئيس اركان الجيوش الأميركية الجنرال مارك ميلي لمناقشة التدابير الوقائية المتوافرة لتجنّب قيام رئيس مختل، مضطرب، وخطر بهجمات عسكرية عدائية أو باستخدام رموز الإطلاق ليأمر بضربة نووية». كما تعهّدت بأن يتحرك الكونغرس في حال لم يتنحّ ترامب «طوعاً وفي وقت وشيك».
يصعب على الكونغرس خلال أيام معدودة تفصله عن حفل تنصيب الرئيس المنتخب إنهاء عملية عزل ترامب. مع ذلك، ثمة جماعة وازنة بين أعضائه تدعو الى محاكمته وإدانته حتى لو تمّ الأمر بعد تسلّم بايدن مقاليد السلطة وذلك للحؤول دون ترشحه للرئاسة سنة 2024. دلالةُ هذا الموقف أنّ إخراج ترامب من البيت الأبيض لا يعني بالضرورة إخراجه من الحياة السياسية. صحيح أنه سقط بضربة قاسية، لكن الترامبية لم تسقط. لقد باتت تياراً شعبياً قوياً تستند الى رافعة لافته: 75 مليون صوت نالها الرئيس العجيب الغريب في الانتخابات الأخيرة.
ما جرى ويجري ينطق بحقيقتين ساطعتين:
الاولى، أنّ أميركا تمشرقت وتمزّقت. تمزقت بمعنى انها انقسمت على نفسها وتمزقت فئات وجماعات متنافرة، متناحرة، تتوزّعها عصبيات عرقية وطبقية ومناطقية، تلجأ الى السلاح والعنف على نحوٍ يحاكي ما جرى ويجري في بعض بلاد العرب وغرب آسيا. الى ذلك، ثمة مشاكل أخرى مربكة: يشكّل السكان ممن هم من أصول أميركية إسبانية، بحسب مركز «بيو ريسرتش سنتر»، 17 في المئة من الشعب الأميركي، وتعدّ الاسبانية اللغة الأم لأكثر من 41 مليون شخص ولغة ثانية في 43 ولاية من ولايات أميركا الخمسين. فوق ذلك، يدفع التفاوت في الموارد والعمران والتقدّم بين الولايات الى نموّ تيارات انفصالية فاعلة. ولاية ألاسكا الغنية بالنفط والتي سكانها من أصول روسية طالبت بالانفصال وكادت تناله لولا قراران للمحكمة العليا في واشنطن في 2009 و 2015. كذلك ولاية كاليفورنيا التي تشكّل الأقليات 51 في المئة من مجموع سكانها دفعت ممارسات أقليتُها البيضاء أكثرية السكان الى التلويح بالانفصال شأن ولايات نيويورك وفلوريدا والمكسيك وتكساس وأريزونا.
الثانية، ثمة تململ واسع وعميق في ولايات الوسط الأميركي، لا سيما في أوساط الأجيال الشابة والطبقات ذات الدخل المحدود، من سيطرة الولايات الكبرى والنخب السياسية التقليدية المتحكمة بمؤسسات السلطة والاقتصاد. هذه الأجيال والجماعات الشابة ليست مناهضة لمنظومة ترامب فقط بل للنخب والقيادات التقليديّة للحزبين الديمقراطي والجمهوري أيضاً. وعليه، فإن إدارة الرئيس بايدن لن تكون مضطرة الى مواجهة تيار الترامبية اليميني الأبيض فحسب، بل الجماعات الشابة المناهضة للقيادات التقليدية في كِلا الحزبيين النافذين أيضاً.
ماذا بعد؟
صحيح أنّ الرئيس بايدن وإدارته سيكونان منشغلين، بالدرجة الأولى، بقضايا الداخل وتحدياته الماثلة، إلاّ انهما مضطران أيضاً الى مواجهة عالم مضطرب، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، هو أحد جوانب تركة ترامب الثقيلة. أول التحديات الصين بما هي القطب الدولي القوي اقتصادياً والقادر على ان ينتزع من أميركا قيادتها الوحدانية للعالم. ثاني التحديات روسيا بما هي منافسة أميركا الأولى على التعاون مع أوروبا وربما التحالف معها، كما الخطر السيبراني الاول الذي يهدد الامن القومي الأميركي.
ما يهمّنا في عالم العرب سياسة بايدن ومواقفه من ثلاث قوى إقليمية كبرى: «إسرائيل» وإيران وتركيا.
ليس بايدن معادياً لإيران كما ترامب. بالعكس، هو أبدى استعداداً لإعادة بلاده الى الاتفاق النووي معها الذي كان ترامب سحبها منه سنة 2018. غير انّ له تحفظات حيال تعاظم نجاح إيران في صناعة الصواريخ الباليستية بعيدة المدى، والأرجح أنه سيحاول ربط عودة بلاده الى الاتفاق النووي بمفاوضة إيران حول هذه الصواريخ لكونها تشكّل خطراً داهماً على «إسرائيل»، فيما إيران تصرّ على رفع العقوبات الاقتصادية عنها أولاً.
الى ذلك، ثمة سؤال حول موقف «إسرائيل» من إيران وتهديدها بأنها لن تسمح لها بإنتاج سلاح نووي. صحيح أنّ إيران تلتزم ذاتياً عدم تصنيع أسلحة نووية، غير أنّ دعمها السخي لتنظيمات المقاومة في فلسطين ولبنان وسورية والعراق تتذرّع به «إسرائيل» لتبرير محاولة احتواء محور المقاومة بضرب أذرعته في هذه البلدان الأربعة ما يضعها في صراع حتمي مع إيران. فماذا تراه يكون موقف بايدن وإدارته في هذه الحال؟
تركيا ليست معادية لـِ «إسرائيل» وإنْ بدت أحياناً متحفظة حيال تصرفاتها المؤذية للفلسطينيين. غير أنّ اعتماد تركيا سياسة توسعية ناشطة في البحث عن مكامن النفط والغاز في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط يضعها في حال تنافس وربما صدام مع تحالف مصر و«إسرائيل» وقبرص واليونان التي تتداخل مناطقها الاقتصادية البحرية الخالصة مع تركيا. ثم أنّ استمرار تركيا في احتلال مناطق حيوية جداً في شمال غرب سورية وشرقها يضعها في حال توتر وربما اشتباك مع إيران وسورية نظراً للتحالف القائم بينهما.
كثيرةٌ هي التحديات التي تواجه بايدن في الداخل والخارج ما يحول دون اتضاح سياسته ومواقفه حيالها قبل اكتمال تشكيلة إدارته ومباشرتها العمل الجاد في الربيع المقبل.
*نائب ووزير سابق.
(البناء)