الرفيق القائد ناصيف ياسين الموسوعة التراثيّة
غالب قنديل
رحل الأستاذ ناصيف، وترك لي كميّة من الذكريات العزيزة عن تجربتنا النضاليّة المشتركة والطويلة في صفوف رابطة الشغّيلة، وفيها صفحات لا تُنسى لصداقة استمرّت في جميع الظروف، وتوثّقت بقوّة في تجارب نضاليّة وشعبيّة خُضناها معا، وكان شريكا فيها بنقائه وإخلاصه وحسّه الوطنيّ الثوريّ النقي.
الأستاذ ناصيف المربي والمناضل ابن بلدة مجدل سلم الجنوبيّة، الذي تعلّم كرفاقه وأقرانه من أبناء بلدته وجوارها في جويّا، حيث تفرض خارطة انتشار المدارس، التي كانت في الستينات، وقبل إنجازات مجلس الجنوب المشهودة، تفرض على كلّ مجموعة من البلدات والقرى أن تعتمد على المدارس في بعض البلدات الكبرى، التي يقصدها أبناء القرى المحيطة للتعلّم. وهذا ما فعله ابن مجدل سلم وشقيقه تامر وأقرانهما من البلدة.
الأستاذ ناصيف كما وصفه لي والدي الأستاذ موسى قنديل، عندما أخبرته عنه، كان مع رفاقه الطلاب، الذين قصدوا جويّا للتعلّم صارما في جديّته، مثابرا على الدراسة والتعلّم، مولعا بالثقافة والأدب. وكلّما توغّلت في صداقتي ورفقة الدرب مع “الأستاذ”، كما كنّا نناديه، كنت أعيد اكتشاف خصال ومزايا في شخصيّة هذا المناضل الفذّ المنغرس في التّراب، والمولع بالأرض وبنقاء بيئته الفلاحيّة المناضلة، التي تختزن إرادة وطنيّة مقاومة صلبة، ونزعة تحرّرية راسخة، والتزاما نضاليّا لا يُوصف. وهكذا كان الأستاذ ناصيف، أي الرفيق محجوب، وهو اسمه، الذي اختاره بنفسه، تيمّنا بالقائد الشيوعي السوداني الشهيد. فقد أراد الاستاذ ناصيف بهذه التّسمية أن يحمل بحركيّته سرّ المعنى، تيمّنا بالشهيد عبد الخالق محجوب القائد الشيوعي السوداني، الذي كان مع رفيقه الشفيع الشيخ أحمد ثنائيّا قياديّا ثوريّا، شقّ مسارا لاتجاه ثوريّ تحرّري، كان من أبرز معالمه التقدّم بقراءة فكريّة تراثيّة إيجابيّة عن الإسلام ومضمونه التحرّري، وهي ميزة طبعت الحزب الشيوعي السوداني. وقد استلهمها الأستاذ ناصيف بثقافته التراثيّة الموسوعيّة، وبالشراكة مع الرفيق الأستاذ حميدي العبد الله وشقيقي الأستاذ ناصر، في صياغة رؤيةٍ جديدة للإسلام خارجة عن مألوف الخطاب اليساريّ العربي، الذي يجحد الأديان. وهي ميزة قدّمتها تجربتنا بجدارة بإدراج الموروث الدينيّ التقدّمي في إطار البناء الفكريّ والثقافي. وكنّا في رابطة الشغّيلة التنظيم اليساريّ العربيّ الأول بعد الحزب الشيوعيّ السوداني، الذي يقدّم قراءة عن الإسلام والأديان، تعتبرها من روافد ثقافة التغيير والمقاومة في المجتمع. بينما كان التقليد اليساريّ الشّائع هو التناحر مع الدين والنكوص عن استنباط الأبعاد التغييرية والتحرّرية، التي يحملها الميراث الدينيّ بتجربته الحيّة وبنصوصه.
كان الأستاذ ناصيف موسوعة تراثيّة وإسلاميّة زاخرة بالمعلومات، وبإحاطة تاريخيّة موثّقة. وقد كان التاريخ اختصاصه الأكاديمي. وهذا ما جعله لنا مرجعا معتمدا في فحص أفكارنا عن الإسلام، وفي مراجعة الكثير من الوقائع، التي كان يعرفها بعضنا بالتواتر والمشافهة. بينما كنّا نثق بالرفيق محجوب وبحصافته العلميّة في تدقيق ما تناهى الينا من المعلومات، وإعادة صياغتها بعد التدقيق والتوثيق. وكان الأستاذ ناصيف بطبعه منقّبا تاريخيّا في التراث ومدقّقا في اللغة والثقافة بوعي ثوريّ، وبمروحة موسوعية من المعارف والمعلومات، التي يغبطه عليها الكثيرون. وكانت لغته في رواية الوقائع، مشافهة أو كتابة، تضفي طابعا مشوّقا على الرواية التاريخيّة. ولعله مما يؤسف له أن هذا الأستاذ والمناضل الكبير لم يترك لنا الكثير من المقالات والدراسات، قياسا الى ما سمعناه منه مشافهة في العديد من جلسات النقاش والبحث.
الرفيق ناصيف ياسين، الذي رحل عنّا كان مدرسة متنقّلة مشحونة بالمعلومات التاريخيّة والتراثيّة والثقافيّة، التي تغطّي الوطن العربي. ولم يكن يحصر ميادين دراسته واهتمامه بالوضع اللبناني. فقد كان عروبيّا بامتياز، وأمميّا في العمق، وملتزما بقضايا الشعوب وبنزعة التحرّر. ولم تكن قراءته في الإسلام من باب التلفيق لزعم الموالفة بين نزعته التحرّرية وثقافته الوطنيّة والعروبيّة وبين الدين، بما له من سطوة وتأثير معنوي. فالرفيق “محجوب” كان يكره التلفيق، ويمقت الاختراع لتوليد الانطباعات. وقد تميّز بدقّة الباحث العارف والمؤرّخ الحصيف. فلم يكن يورد استنتاجا أو موقفا من غير إسناد أو حجّة، وهو المرجع العارف بتاريخ المنطقة وتحوّلاتها منذ القدم، بحكم اختصاصه العلمي ومعارفه الموسوعيّة. فقد كان من ميزاته النهم في القراءة والاطّلاع، والجلد في النقاش والمجادلة بتهذيبه الرفيع ولغته الحصيفة. وهذا ما جعله مرجعا
لكل من يريد أن يدقّق في معلومة تراثيّة أو يرغب في فحص معلوماته التاريخيّة.
أيها الحبيب الراحل الأستاذ ناصيف ستبقى خالدا بمآثرك وبتواضعك، الذي يعلّم الكثير، مناضلا وصاحب مدرسة في التّراث والتاريخ، تعلّمت منها وأفتخر بها.