حوار العام: توثيق شفوي بامتياز د. بثينة شعبان
أن تجلس أمام الشاشة شاخصاً وناصتاً لقرابة أربع ساعات ولا تريد حتى لصوت الرياح أن يزعج خلوتك مع ما يقال، ولا لأحد أن يدب قربك لأي سبب كان؛ فهذا يعني أنك تنصت لما يلامس شغاف قلبك وعصارة عقلك ووجدانك وبأسلوب سلس وهادئ ومريح لا ادعاء فيه ولا محاولة لإبراز حجم مساهمة المتكلم أو المحاور أو تسليط الضوء على ما قد يزيد من مكانة أو مساهمة أي منهما.
بل كان التركيز والتصويب كله على توثيق حقائق ومعطيات أتت بالكثير من الجديد هدفها الأساس إنصاف الناس قادة كانوا أم شهداء أم جنوداً أم مجموعات مغمورة لم يذكرها أحد، والنتيجة الجميلة كانت توثيقاً شفوياً لذاكرة قائد في الميدان يقارع، ولا يزال، تحالف الشر بين أعداء الأمة وبين المستسلمين الخانعين على مدى سنوات وهو يعمل مع الأصدقاء والإخوة والرفاق عملاً أهمّ ما يميّزه الصدق والغيرية وإنكار الذات ووضع مصير الأوطان والشعوب فوق كلّ اعتبار. شعرتُ وأنا أحضر هذا الحوار أنني لا أريده أن يصل إلى النهاية أبداً بل أتمنى أن يتطرق إلى كلّ الأوضاع في العالم لأستزيد من خبايا خبرة هذا الذي يحمل اسمه إرث الرسالة والذي يدلي باتصالاته ومعلوماته عن القادة والرفاق وسير العمل على أكثر من صعيد وفي أكثر من بلد في هذه الساحة الإقليمية الصعبة والمعقدة والتي يعصف بها أحياناً عاملون في الطابور الخامس ليذرّوا الرماد في العيون ويمنعوا الحقيقة عن المتسائلين والتوّاقين لمعرفة الحقيقة وجوهرها. استزدنا من السيد عن شخصية فارس من فرسان المقاومة تحلّى بكلّ صفات الفارس النبيلة والأخلاقية والإنسانية الراقية الشفافة؛ فكما كان صلباً وعنيداً في مقارعة الأعداء كان مرهفاً في مقاربة آلام الآخرين ومتواضعاً جداً في تعامله مع الناس وفي نظرته إلى نفسه؛ فجسّد بخلقه وعمله الآية الكريمة ” وعباد الرحمن يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً” . وكلما أفرد ملفاً عن هذا الفارس اكتشفنا زاوية من شخصيته وعمله وخلقه ونبله لَم نكُن لننفذ لها من قبل لولا حوار السيد هذا. وهذا التوثيق في غاية الأهمية لأنه الإرث الذي نتركه للأجيال، والثقافة التي نغذيهم بها وننشئهم عليها؛ فإذا كان الشهيد قاسم سليماني الرجل الذي لا بديل عنه فإن إرثه العسكري والسياسي والأخلاقي والإنساني حكماً لا بديل عنه ويجب أن يعكف الدارسون على توثيقه وتوصيفه ووضعه في متناول الأجيال القادمة كي يساهم في تشكيل وعيها عن الماضي ويساعدها على اجتراح الوسائل المناسبة لمواجهة أعاصير الحاضر واحتمالات المستقبل. هذا الإرث هو السلاح الأمضى كي نقوّض خطوات الأعداء الذين ظنوا أنهم بتنفيذهم هذا العمل الإرهابي المجرم يستطيعون القضاء على هذا المسار النبيل. الشهيد قاسم سليماني لم يعد رجلاً عادياً بل أصبح مساراً وثقافة وأسلوباً وقدوة، وعلينا ترسيخ هذا النموذج بكلّ الوسائل الممكنة من توثيق وتوضيح وشروحات كي يشكل عضداً لثقافة المقاومة التي هي الضمانة الوحيدة لاستمرار الأجيال على هذا النهج إلى أن يتحقق تحرير الأرض ويتم بناء الأنموذج الذي يضمن حرية الأرض والإنسان وزرع القيم والتي هي أخشى ما يخشاه العدو لأن الصراع الحقيقي هو على القيم والأخلاق والمسار الإنساني الذي تتبناه الشعوب، والصراع هذا هو صراع بالفعل وهو الصراع القديم الحديث بين الحقّ والباطل والخير والشرّ وبين من يقدّس إنسانية الإنسان ومن يسعى لانتهاكها وظلمها كي يراكم ثرواته.
في هذا التوثيق الحصيف الانسيابي الهام جداً تطرّق السيد إلى ما اعترى سورية وإلى الأشهر الأولى من الحرب الكونية على الشعب السوري فبدّد الأوهام وكذّب السفهاء والمتاجرين بدماء وحيوات شعوبهم؛ إذ ذكر حقيقة في غاية الأهمية وهي أن السيد الرئيس ومنذ البداية سأل ما هو المطلوب وأنا جاهز للحوار، وأضاف السيد أن الأصدقاء في الجمهورية الإسلامية الإيرانية استنفروا للاتصال، كلٌّ بأصدقائه ومعارفه، لكي يبدأ النقاش والحوار حول المطلوب وتعقد الطاولات المستديرة حول المهام المطلوبة لإخماد نار الفتنة وإنقاذ البلاد، ولكن الجواب الذي عاد به الجميع هو أن الطرف المدعي يؤمن أن النظام في طريقه إلى الانهيار وانهم سوف ينتظرون إلى أن ينهار هذا النظام ولا مصلحة لهم في الدخول في مفاوضات أو نقاشات أو حوار معه الآن. وهذا يتقاطع، وهذا للتاريخ أيضاً، مع الدور المتواضع الذي كلفني به سيادة الرئيس مع بعض الشخصيات هنا داخل سورية لنتحدث مع من يعتبرون أنفسهم ممثلي المعارضة ونرى ماهي طروحاتهم وماذا يريدون أن يبحثوا وماهي في نظرهم النقاط التي ترضي الجميع وتنقذ البلد من أي احتمالات خطرة أو سيناريوهات مغرضة. وقد قابلنا كل من كان يقود ما أسموه “حراكاً” في المراحل الأولى، وامتدت اللقاءات لساعات وأيام كانوا يركزون خلالها عل سرد تاريخي لأي تجاوزات حصلت منذ عشرات السنين حتى من قبل مسؤولين غادروا البلد ولم يعودوا إليه، ونحن نحاول إعادة البوصلة إلى الوقت الراهن ونقول دعونا من كلّ هذا ونركز على ما يتوجب فعله اليوم كي نتعاون أنتم ونحن في وضع الأمور في نصابها الصحيح ولا نعرّض شعبنا وبلدنا لما قد لا تحمد عقباه. ولكن القرار الذي فهمناه من كلّ هؤلاء في ختام كلّ حوار هو أنهم يفضّلون الانتظار وكان واضحاً انهم كانوا ينتظرون وعداً وعهداً من أعداء سورية بقلب الطاولة لصالحهم لأن أسيادهم كانوا قد روّجوا عبر وسائل الإعلام أن المسالة مسألة وقت قصير وبذلك شجعوا على الانشقاقات وعلى أن تأخذ هذه المعارضات المواقف المؤدية إلى تدمير مؤسسات البلد ومنشآته أملاً منهم في تحقيق الموعود واعتلائهم سدة الحكم كما وعدهم أسيادهم بذلك وكما جرت الأمور في بلدان أخرى كتونس وليبيا والعراق. هذا التوضيح من قبل السيد حسن ومن قبل من عمل في الداخل في غاية الأهمية لأنه يؤرّخ لمرحلة قد تبدو ضبابية لأجيال المستقبل، ويجيب عن أسئلة جوهرية شغلت بال الكثيرين هنا في سورية: هل كان من الممكن تفادي الكارثة؟ وهل كان إبداء مرونة أكبر سيجبر الآخرين على التراجع عن تحالفهم مع أعداء سورية وعن مخططاتهم والعمل مع دولتهم وشعبهم على احتواء الحراك في بداياته؟ هذه الأسئلة وغيرها كثير مما يطلقه المغرضون تمت الإجابة عليها وبشكل واضح وصريح من قبل شاهد كان على تماس مباشر مع السيد الرئيس ومن قبل قائد معنيّ بالمقاومة في لبنان وسورية والعراق وإيران ومن قبل إنسان يشهد له العدو قبل الصديق بالصدق المطلق في كلّ ما ينطق به لأنه مسؤول أمام الله قبل أن يكون مسؤولاً أمام البشر. والسؤال: كيف يمكن تطوير وتكثيف هذا النوع من الحوارات التوثيقية مع مسؤولين في المنطقة وخارجها بحيث يتم تسجيل هذا التاريخ من أفواه من صنعوه وقادوه وصاغوه، وبعد ذلك ينشغل الكتاب والباحثون والإعلاميون بترتيب وتصنيف هذه المعلومات لتشكل إضافة نوعية لثقافة المقاومة في المنطقة ولتورث الأجيال القادمة تاريخها الحقيقي وتمكنها من التصدّي لكل حملات التشويه والترويج للأعداء والخصوم؛ هذه الحملات التي تعتمد على اختلاق الأكاذيب والمراهنة على سرعة وتيرة الحياة وعدم صبر الكاتب والمتلقي. لقد خطّ الأستاذ غسان بن جدو والسيد حسن نصر الله في حوار العام مساراً هاماً جداً للتوثيق الشفوي لابدّ من متابعته ووضع الأطر المنهجية والخارطة الشاملة لاستكماله ليكون القاسم المشترك بين السياسة والإعلام والتاريخ وثقافة الحاضر والمستقبل.