للتطبيع مع «إسرائيل» أهداف تطال تاريخ الأمة وذاكرتها ومعتقداتها ووجودها: عمر عبد القادر غندور*
تجهد ماكينة الهيمنة الامبريالية الصهيونية في حربها الضروس على الأمة في مواجهة ثقافتنا ومسلماتنا ومعتقداتنا متسللة من خلال التطبيع لتسلبها إرادتها وهويتها وكأننا في حلبة صراع مع الثقافة الصهيونية التي تمتلك المال والأدوات والإعلام، ولا تمتلك الحقيقة التاريخية المتجذرة في عمق الوقائع التي شهدها العالم عبر الحقب القديمة والمعاصرة.
وإذا كان التطبيع بمفهومه القانوني يعني التعايش وعدم الاعتداء، فانه لا يستقيم بين ظالم ومظلوم او بين المحتلّ وضحيته، وفي هذه الحالة لا يكون تطبيعاً بل استسلاماً وإذلالاً وخضوعاً، وهو ما يتنافى مع أبسط القواعد التي ترعى العلاقات بين الشعوب.
ويمكن القول في هذه الحالة انّ مثل هذا التطبيع يكون استعماراً بقفازات بيضاء.
وفي مناخ هذا التطبيع الملتبس، على الدول المطبعة ان تعيد النظر في مناهجها التعليمية وإعادة ترسيم الجغرافيا للأجيال القادمة.
والمؤسف ان ينظر المواطن العربي، وليس كله، الى كرنفالات التطبيع على إعادة علاقات وفتح سفارات وتبادل تجاري وسياحي ورياضي وغير ذلك من المشاهد السطحية، بينما التطبيع الذي أراده المطبع الظالم، هو تغيير القناعات والإرادات والموروثات والذاكرة حتى الدينية منها، وهذا ما يسعى اليه الكيان الصهيوني، الى حدّ نسف المقومات التي ترتكز عليها ثقافتنا وحضارتنا، وتفكيك العلاقات بين المكونات الاسلامية والنصرانية والأقليات وصولاً إلى تفكيك الأقطار وبعثرتها، وهو ما يفيد الثقافة الصهيونية الجديدة، حتى وصل الأمر الى المطالبة بحذف آيات من القرآن الكريم التي توصف اليهود على حقيقتهم، وهو ما فعله الاحتلال الصهيوني مع المناهج التربوية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.
لذلك التطبيع الذي يريده الصهاينة خبثاً يتناول قناعاتنا وذاكرتنا وأرضنا، وليس هيّناً أن يقول ولي عهد مملكة آل سعود محمد بن سلمان لرئيس تحرير مجلة «أتلانتيك» الأميركية جيفري غولد بيرد تحت صورة تجمع الرئيس الأميركي فرانكلين ومؤسس المملكة السعودية عبد العزيز بن سعود «أنّ الشعب اليهودي يحق له بدولة قومية خاصة به تقام على أرض أجدادهم، وأنه يواجه مثلث الشر المتمثل بإيران والاخوان المسلمين والجماعات السنية الملتزمة» ووصفها بـ «الإرهابية»، و»أن الاسلام معني بنشر الكلمة ولا يأمر بالقتال لنشر الإسلام، وانّ المرشد علي خامنئي هو أسوأ من هتلر، لأنّ هتلر أراد إخضاع أوروبا والخامنئي يريد إخضاع العالم، والشيعة يروّجون لظهور المهدي حتى يحكموا العالم»!
ومثل هذا التطبيع الذي أرادته «إسرائيل» على العرب بالتهويل بالعصا الأميركية يتجاوز العلاقات والتبادلات والانتخاب، وهو في الحقيقة إلغاء شامل للهوية والتاريخ والثقافة والأخلاق وأخطره التطبيع الثقافي الذي يشتغل عليه الصهاينة أكثر من أي شيء آخر ويرونه حاجة ملحة ليعرف العرب تاريخ اليهود ولكن المتأخرين من مؤرخي العرب لم يلمّوا إلماماً كافياً بتاريخ الجاهلية، ولولا ذلك ما أغفلوا تاريخ قسم كبير من سكان الجزيرة العربية كان له من الحوادث السياسية والوقائع الحربية والآثار الاجتماعية ما يستوجب إصدار الكثير من المؤلفات، والباحث في تاريخ الجاهلية يتوقف نجاحه على معرفة تاريخ اليهود في بلاد العرب عامة وفي الأقاليم الحجازية بوجه خاص. وقد يرجع السبب في هذا التقصير الى جهل المؤرّخين بالنتائج العظيمة التي تترتب على معرفة تاريخ اليهود، ولو انهم اهتمّوا به لوجدوا في المراجع العربية القديمة مادة غزيرة تمكن الباحث المحقق من سدّ هذا النقص، وبالتالي التعرّف حقيقة الى تاريخ العرب في ذلك الحين، ذلك انّ البحث في تاريخ يهود الجزيرة العربية يُعدّ أمراً ضرورياً لحلّ المشكلات التي يتخبّط بها الكثير من الناس، والاعتراف بأنّ العرب واليهود هم أبناء عمّ، ويجري في عروقهم دم واحد، بدليل أنّ اللغة العبرية والعربية فيهما من التشابه ما يؤكد التلاحم بين اليهود والعرب.
مثل هذا الادّعاء الذي يشتغل عليه صهاينة العدو لتزوير التاريخ، فقد درجوا عليه منذ مئات السنين للإيحاء انّ فلسطين أرض الميعاد وقد أعطاها حسب روايتهم الله على لسان نبيّه وخليله ابراهيم حين قال: «لنسلك أعطي هذه الأرض. وهذا ما ينفيه الواقع لأنّ اسماعيل واسحاق من نسل ابراهيم لم يملكا أرضاً من هذه الأرض .
ومهما حاولوا ستبقى فلسطين أرضاً عربية مباركة فيها المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وستبقى كذلك، منذ ان سكنها الكنعانيون منذ آلاف السنين ولن ينجح السلام المفروض وفق المنظور الصهيوني الغربي.
وما الحديث عن انتهاء الخصومة السياسية بين النبي محمد إلا هرطقة يُراد منها التضليل، كما يشيعون انّ بطون يثرب اليهود حتى شرع اليهود ينظرون بعيون الاكبار والاحترام الى جيوش المسلمين التي كانت تتدفق كالسيل الى أقطار العالم ونواحيه، وكانت هذه الجيوش قضت على سلطة الدولة الرومية في أقاليمها الغاصبة والدانية، وكان اليهود في أغلب مدن العراق يخرجون لاستقبال جيوش المسلمين بالحفاوة والإكرام لأنهم كاوان يؤثرونهم على غيرهم، إذ يرون فيهم قوماً يؤمنون بإله موسى وابراهيم، ولقد ازدادت هذه الروابط متانة مع امتداد الزمن حتى دخل اليهود في جيوش المسلمين ليناضلوا معهم في اقاليم الاندلس. وقد حان الوقت اليوم لوضع حدّ لهذا الظلم والعسف وإهراق الدماء مدة طويلة من الزمان».
ومثل هذا السرد لا يعوزه شيء إلا الحقيقة، ونحن لسنا في هذه العجالة لنُفنّد بطلان هذا التزوير ونكتفي بالإشارة الى ان الرسول لقي من يهود الجزيرة، ولنقل أكثرهم، صداً وعداوة ونكراناً لما جاء في التوراة عن نبي آخر الزمان محمد حتى قال فيهم الله في قرآنه المجيد «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴿٨٢﴾ المائدة» وبعد كلام الله لا كلام يعلو وصدق الله العظيم.
في الوقت الذي يرى مؤرّخو الحضارات المعاصرة ومنهم رولان بريتون في كتابه «جغرافيا الحضارات» انّ في عالمنا سبعة مدارات حضارية كبرى تتوسطها الحضارة العربية الإسلامية الممتدة من نهر الغانج الى المحيط الأطلسي، وقد ملأت هذه الحضارة سمع الدنيا عدلاً وفكراً ورقياً حتى ملكت ناصية التاريخ.
وبمثل هذه الحضارة ترتقي الأمة بالعلم والعمل والإعداد والجهاد واستنارة التاريخ الناصع ولا دور لمثل الأشباه من الرجال المطبّعين الغافلين اللاهثين…
*رئيس اللقاء الاسلامي الوحدوي
(البناء)