الصراع طويل ولن يحسم في معركة واحدة
غالب قنديل
تجتاز المنطقة العربية مرحلة دقيقة ومصيرية في الصراع بين محور المقاومة والتحرّر ومحور الهيمنة الاستعمارية الصهيونية. والواضح من احتشاد القوى والجهات المنخرطة في هذا الصراع أننا مقبلون على مراحل حاسمة ومهمة، ضمن السياق التاريخي لنزاع المحورين. ولكنّ الوقائع تقول إن هذا الصراع سيطول، وإننا مقبلون على جولات كثيرة ومعارك ضارية، قبل أن نظنّ بلوغ محور المقاومة والتحرّر مرحلة الحسم النهائي للمعركة ضد الحلف اللصوصي الاستعماري وعملائه في المنطقة.
أولا: أسقطت العقود الماضية أوهاما كثيرة عن احتمال انهزام المعسكر الاستعماري الغربي، وخروجه من الشرق بصورة نهائية. وخلافا لجميع التوقّعات، التي سادت بعض الأوساط في البلاد العربية والعالم الإسلامي، بل وحتى في الغرب نفسه، تمسّكت الإمبراطوريات الاستعمارية بقيادة الولايات المتحدة بمصالحها في منطقتنا، وقاتلت بكلّ شراسة وخبث لإدامة هيمنتها في المنطقة، نظرا لما تمثله من أهمية في منظومة المصالح العالمية الاستراتيجية والاقتصادية والمالية، التي تُعتبر في الحساب الأميركي مصالح وجودية، يعني التخلّي عنها انهيار منظومة الهيمنة نهائيا.
هذا البعد الحاسم في السلوكيات الاستعمارية الغربية يفسّر المناهج والسياسات، التي اعتمدتها الإدارات الأميركية المتعاقبة في المنطقة وفي العالم، حيث لم تتساهل واشنطن حتى مع شركائها الأوروبيين، في المواضيع التي تتعلق بالتكالب الاستعماري والهيمنة على الشرق العربي. وهذا ما برهنت عليه التجارب الطويلة والمتلاحقة خلال العقود الأخيرة. فالأمر متشعّب بكلّيته، يجمع بين أبعاد اقتصادية واستراتيجية، لا يمكن إغفالها في الحساب الأميركي والغربي دون الوقوع في مغالطات قاتلة، وتكبّد خسائر ضخمة، وهذا ما يتحاشاه الغرب الاستعماري بكل إمكاناته.
ثانيا: يمثّل الكيان الصهيوني قوة رئيسية وقاعدة متقدّمة داخل المنطقة العربية لحراسة الهيمنة والنهب. وهذه حقيقة أكدتها وقائع متزايدة خلال السنوات الأخيرة. ولا يمكن، بأيّ شكل كان، توهّم الفصل بين الصراع العربي- الصهيوني ونضال شعوب الشرق من أجل التخلّص من الهيمنة اللصوصية الاستعمارية على المنطقة. بل إن اندماجا عضويا يحصل اليوم بين مسار النضال التحرّري لشعوب الشرق والصراع العربي -الصهيوني. وواهم كلّ من يفترض إمكانيةً للفكّ بين هذين المسارين في ظل تزايد الوظائف، التي يشغلها الكيان الصهيوني في الحسابات الاستراتيجية الغربية على مستوى المنطقة. وقد بات واضحا أن قضية التحرّر من الهيمنة اللصوصية ترتبط مباشرة بالتخلّص من الكيان الاستعماري الصهيوني على أرض فلسطين السليبة، وعلى الارتباط العضوي بين قضية التحرّر الوطني في جميع البلدان العربية والمحيط المشرقي عموما، وبين تحرير فلسطين.
يجتاز الصراع الذي تشهده المنطقة منعطفا مهما، تتبدّى فيه بكلّ وضوح الوظيفة والأهمية، التي يشغلها كيان العدو في السياسات والاستراتيجيات الغربية. وسيكتشف جميع المناضلين من أجل التحرّر من الهيمنة في منطقتنا، شاؤوا أم أبوا، أن نضالهم يجب أن يتجه، في قسط رئيسي من جهودهم، صوب تحرير فلسطين والتخلّص من الكيان الاستعماري الصهيوني، الذي هو القوة الاحتياطية المقاتلة لحراسة الهيمنة الاستعمارية، ولمحاولة استنزاف حركات المقاومة والتحرّر. وكل تحوّل في المعادلات على خط الصراع ضد الكيان الصهيوني لصالح معسكر المقاومة والاستقلال سيقرّب واقعيا من لحظة التحرّر النهائي والتخلّص من نير الهيمنة والنهب اللصوصي الغربي.
ثالثا: برهنت العقود المنقضية من تاريخ المنطقة على أن قضية التحرّر في أيٍّ من بلداننا ترتبط عضويا بالتخلّص من القاعدة الاستعمارية الصهيونية في فلسطين المحتلة. وسيبقى ذلك الهدف مركزيا في أولويات النضال التحرّري. وعلى قوى التحرّر في المنطقة أن تلتفت دائما الى دور القاعدة الاستعمارية الصهيونية على أرض فلسطين المحتلة في حماية منظومة الهيمنة والنهب اللصوصي الغربي. وهذا الترابط العضوي تثبته الأحداث، وليست إثارته مفتعلة أو مصطنعة. وسيظل التحرّر من النهب الغربي مرتبطا حتى النهاية بقضية فلسطين، وبحسم الصراع مع العدو الصهيوني حارس النهب الغربي الأول في هذا الشرق.
ويمكن لنا استنادا الى التجربة التاريخية التأكّد من هذه الحقيقة، التي تشكّل قانونا للصراع في المنطقة. فمعادلة الردع التي فرضها محور المقاومة المكوّن من إيران وسورية وحركات المقاومة في لبنان وفلسطين المحتلة وفي العراق وفي اليمن، أسهمت في استنزاف الهيمنة الاستعمارية الصهيونية وإضعافها، ووسّعت حركة المبادرة والعمل لمصلحة قوى المقاومة والتحرّر. وهذا ما تسعى الدول الاستعمارية لمعادلته بتعزيز حضورها العسكري المباشر ما أمكن، واختبار تكتيكات واستراتيجيات متحوّلة ومتشعّبة في سبيل استنزاف قوى التحرّر وإضعاف زخمها وقوتها. والشواهد كثيرة من اليمن الى لبنان الى العراق وفلسطين والمنطقة بأسرها بصورة أعمّ. فقد طبّق المستعمر الغربي بقيادة الولايات المتحدة أساليب متعددة وخطيرة في استنزاف الشعوب والبلدان المتمرّدة على الهيمنة. وهو يختبر باستمرار مزيدا من الأدوات سياسيا وعسكريا، مستفيدا من تفوّقه التقني وقدراته المتضخمة. في حين يعتمد محور المقاومة والتحرّر وداعموه على قدراتٍ وإمكاناتٍ بنوها واكتسبوها، رغم الحصار والضغوط، ومحاولات الاستنزاف المتواصلة.
إن جميع الوقائع تؤكد حتمية انتصار الشعوب وحركات المقاومة والتحرّر، لكنّ هذا النضال سيقتضي زمنا، وتضحياتٍ كثيرة، بسبب التكالب الاستعماري، وحجم الثروات التي ينهبها لصوص الغرب من بلادنا.