اللغة العربيّة قضيّة راهنة: بشارة مرهج*
بوجه الحملة الضارية على اللغة العربيّة ودلالاتها الأدبيّة والتراثيّة، تلك الحملة التي تتصاعد يوماً بعد يوم ويشترك فيها البعيد والقريب، لا بدّ من قول بضع كلمات حيال هذا الموضوع الحيوي والتنبّه لانعكاساته الخطيرة على مستوى الأمة ودورها وتماسكها.
أولاً: اللغة العربية هي لغتنا القومية وعنوان هويتنا وحاملة لتراث مهمّ بذاته ومهمّ للإنسانية جمعاء، خاصة أنّ هذه اللغة كانت، في مرحلة طويلة من التاريخ الإنساني، لغة العلوم والطب والهندسة والفلسفة والأدب وساهمت مساهمة فعّالة في عملية التلاقح الحضاري ونقل المعرفة وتطويرها على طريق التقدّم الإنساني الشامل.
ثانياً: انّ هذه اللغة معتمدة في البلاد العربية والإسلامية وهي لغة التواصل والتخاطب والصلاة وليست مرشحة للزوال أبداً، وإنما هي مرشحة للتوسّع والانتشار مهما كانت آراء البعض وانتقاداته لهذه اللغة الجميلة التي أُعجب بها كبار أدباء أوروبا.
ثالثاً: حتى الغرب الأوروبي والأميركي الذي يقف ضدّ العروبة وتطلعاتها النهضوية ويسهم مع الحركة الصهيونية في تهويد فلسطين واستتباع الكيانات العربية هو نفسه يحترم اللغة العربية ويعترف بدورها الحضاري وحضورها العالمي. فالحقيقة ساطعة ولا ينكرها إلا جاحد أو جاهل.
رابعاً: على أنه ينبغي في هذا المجال عدم الاستهانة بتأثيرات العولمة على لغات العالم، ومن بينها اللغة العربية. فإذا كانت العولمة عاجزة عن ابتلاع اللغة العربية المتجذرة في وجدان العرب والمسلمين فهي قادرة على محاصرتها وتشويهها مما يرتب على أصحاب هذه اللغة العمل على تحديثها في كلّ الاتجاهات لمواكبة العصر وتحوّلاته.
خامساً: اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن ولغة مئات الملايين من الناس لها مكانة عالمية، وقد تمّ تكريسها منذ عقود من بين اللغات الستّ المعتمدة في الأمم المتحدة، لا سيما أنّ كلماتها تُسمع وعباراتها تتلى يومياً في مختلف المنابر ومن على المآذن المنتشرة شرقاً وغرباً. وعلى مرّ الزمن أثبتت هذه اللغة قدرتها على البقاء والاستمرار ولذلك فهي تستأهل عناية أهلها واهتمامهم ومبادراتهم لحمايتها من العقوق والضغوط المتواصلة على بنيتها وأصولها ومهامها. والحماية – على ما أعتقد – تكون بالارتقاء والانفتاح كما حدث في عهد الرشيد والمأمون عندما تعاملت الحضارة العربية – الإسلامية مع حضارات الأمم بالاطلاع والتفاعل والتبادل المعرفي بعيداً عن التعصّب والانغلاق، وعلى أساس العطاء الإنساني سواء تعلّق بالإبداع الأدبي أو التقدّم العلمي.
سادساً: إنّ الارتداد عن اللغة العربية المصحوب غالباً باعتماد لغة أجنبية في ميادين المخاطبة والكتابة والحوار لا يعبّر فقط عن عقدة نقص تجاه الأجنبي، وانما يعبّر أيضاً عن استسلام لسطوة هذا الأجنبي و «أضوائه» ومخططاته. ومثل هذا الأمر خطير وآثاره سلبية على الهوية والانتماء الوطني والقومي في لحظة يتصاعد فيها الهجوم الصهيوني الاستعماري على الأمة وقيمها ورموزها ومقدساتها. والأفظع من ذلك ما نراه اليوم من «مساهمة» العديد من مؤسّسات الدولة المدنية والأمنية، قصداً أو عرضاً، في هذه الحملة المسعورة على اللغة الأمّ. والشواهد كثيرة في الإعلانات والملصقات التي تصدرها هذه المؤسسات الرسمية والتي تحتوي عبارات مبتذلة وأحياناً غير مفهومة للقراء.
والمسؤولية هنا لا تقع فقط على شركات الإعلان التي يعمل بعضها على تشويه اللغة العربية وإنما أيضاً على أولي الأمر الذين يتجاهلون عمداً ألاعيب هذه الشركات ويتناسون أنّ اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد وكان اعتمادها أول بند على برنامج حكومة الاستقلال.
سقى الله تلك الأيام التي كان فيها الكتّاب والنساك والرهبان يتسابقون لحماية اللغة العربية وتسهيل استخدامها وتحسين صورتها بوجه سياسة التتريك والتغريب.
*نائب ووزير سابق.
(البناء)