هدر الوقت يرفع الكلفة
غالب قنديل
تميل القيادات اللبنانية بمعظم اتجاهاتها الى السجالات العقيمة وتقاذف الاتهامات والابتعاد عن النقاش المجدي في أسباب الأزمات وسبل تجاوزها. فالطاغي في الخطاب السياسي هو التنصّل المفرد من المسؤولية لتبرئة الذمة الحزبية أو الشخصية مقابل عقم شديد ومحبط في إبداع أو ابتكار اقتراحات لمخارج أو حلول جديدة تمنع الكارثة.
أولا: يتفق الخبراء والمحللون بجميع مشاربهم على أن الوضع اللبناني ذاهب الى مزيد من الانهيار، وتبدو الصورة قاتمة في الخطاب السياسي، الذي يثير انطباعا، يؤكد أن البلد عالق في الطريق المسدود تحت وطأة انهيار متسارع في الاقتصاد، بدأ يخرج عن أي سيطرة.
وبدلا من توحيد الجهود والإمكانات لمحاولة إيجاد المخارج والحلول أو ابتكارها تنصرف القيادات السياسية في معظمها الى تبادل الاتهامات. ويوحي المشهد بانسداد خطير، وبتدهور شامل مقبل على البلد سيعصف بجميع وجوه الحياة الاقتصادية والسياسية. وهو أمر يعبّر عن إفلاس تام لمعظم الأطراف السياسية التي تولّت المسؤولية، وصاغت الخيارات الاقتصادية والمالية الكبرى بالشراكة في ما بينها خلال السنوات الأخيرة. وهو الأمر الذي توحي به الحلقة المفرغة في الاقتصاد والسياسة معا، حيث لا وصفة سحرية، واجترار متكرّر لتبادل الاتهامات بالمسؤولية، بينما البلد يغرق، ومضاعفات الكارثة تزداد وطأة على الطبقات الشعبية.
ثانيا: في هذا المناخ الدراماتيكي الذي يعيش اللبنانيون تحت وطأته، تنعدم أي مؤشرات الى رؤية استشرافية لمشروع حل يؤمّن المخارج الصحيحة، ويقطع الطريق على السقوط “الحر” الى الهاوية اقتصاديا وسياسيا أيضا. فالأكيد أن لكل هوة اقتصادية ومالية تداعياتها الطبيعية في الواقع السياسي. ولا يلوح في الأفق الراهن أيّ مشروع وطني للإنقاذ، يدعو الى التفاؤل بالوصول الى مخارج، ولا حتى محاولة جدية لبلورة إرادة مشتركة في البحث عن ذلك الحل المفقود. وما يزيد الطين بلة هو أن النقاش الأبرز، الذي يستقطب الاهتمام، هو تبادل الاتهامات وتداول الفضائح في حالٍ لا يمكن وصفها بغير الجدل البيزنطي الذي أطلق على المتناحرين بالكلمات وبالأصوات العالية، بينما الخطر يدهم الأبواب ويهددهم جميعا.
لا أحد يبذل جهدا أو يتخذ مبادرة، ولو متواضعة، لإطلاق حوار جدي في كيفية إخراج لبنان من مأزقه الخطير اقتصاديا وماليا. والأكيد أن التدقيق في الدفاتر القديمة ليس طريقا لحل سحري. لأن الثروات المكنوزة المحكي عنها قد اُهدرت، وتبدّد معظمها في الدين، الذي تراكم، والخسائر التي تسارعت، وتزايدت في مسار الانهيار. ومن المشكوك به أن يعثر المدققون، وبأي تقنية كانت استعانوا، على الكنز المزعوم والمفقود. فلا كنوز طي هذا الانهيار الكارثي، وما سُرق قد سُرق، وما اُهدر قد اُهدر في اللهاث خلف نظام محكوم بالإفلاس لأنه عاش وانتفخ على رمال. وقع الانهيار دفعة واحدة لأن اللبنانيين شعبا وحكاما ومؤسسات لم يدّخروا شيئا لساعة الضيق.
ثالثا: لقد عاش البلد على المضاربة والربا، وانتفخ الورم المالي الوهمي، بينما كان الإنتاج مهملا، متروكا ومخرّبا. وهذا هو الأصل في علّة الانهيار الكبير، الذي يسارع المسؤولون للتنصّل من مسؤوليته، ويفضلون تقاذف الاتهامات عن الكارثة التي أوصلت اليه.
الصحيح أن كلّ من لم يرفع الصوت ضد النظام الربوي الريعي، الذي قام على المضاربة ودمّر الإنتاج، وسحق الفقراء في دورة استهلاك وارمة، كان شريكا في التسبّب بالكارثة. بكل تأكيد، ثمة لصوص ونهّابون راكموا أرباحا خيالية وربوية من دماء اللبنانيين. وهم الطبقة الطفيلية، التي اغتنت بالمضاربة وبالسمسرة وبالصفقات الكبرى. وهؤلاء لهم رعاتهم في الداخل والخارج على صعيد النظام وقوى الهيمنة الأجنبية. فشبكة الشركاء تتخطى الحدود الى دول الغرب وامتداداتها المالية والسياسية. وبالتالي، إن طريق الإنقاذ يبدأ ببلورة إرادة وطنية ببرنامج ومشروع إنقاذي، لا يعتمد على القروض والمساعدات الغربية، التي هي فخ خطير يتهدّد السيادة، ويسترهن الإرادة الوطنية، ولا يقدّم حلولا جدية للمشاكل، التي تواجه الوضع اللبناني. لأن الغاية من القروض والديون التحكّم بالواقع الاقتصادي واسترهانه للهيمنة والنهب على حساب اللبنانيين ومصالحهم وتطلعاتهم.