حلّت الكارثة فماذا تنتظرون؟
غالب قنديل
يقف لبنان على حافة الهاوية مع تسارع مؤشرات الانهيار الاقتصادي والمعيشي والمالي، الذي لا تنفع معه كل الفذلكات الهادفة لطمس المسؤوليات أو لتصوير ما جرى على أنه كان قدرا محتوما، بينما تتوارى الأطراف والجهات المسؤولة عن التأسيس للكارثة عن الأنظار.
أولا: المسؤولية عن المآل الكارثي ماليا واقتصاديا تتحملها الأطراف التي تعاقبت على المواقع الحكومية، ولعبت أدوارا في صياغة الخيارات والقرارات السياسية والاقتصادية العليا طيلة العقود الثلاثة الماضية. ولا مجال لاستثناء أيٍّ كان من تبعات ما حصل. فمَن لم يشارك في المنظومة الحاكمة والمقرِّرة قعد عن تقديم وصفته البديلة والنضال لنقلها الى مستوى متقدِّم من الاقتناع الشعبي، لتتحول الى خيار بديل لما هو قائم.
والاقتراحات أو الوصفات التي ينطبق عليها مثل ذلك التوصيف قليلة ومعدودة، وقد تبنَّتها أقليات سياسية معزولة، كانت تسير عكس التيار الجارف لفورة المشروع الإعماري الذي فتن الألباب، وسبّح الجميع بحمده ومن كل المشارب والمواقع، وهو الذي أسكر الناس بوعود الرخاء، بينما أسس واقعيا لكارثة “صحا” اللبنانيون على وقعها دون توقّع. ويشغلهم اليوم أو يُراد إشغالهم بجدل الاتهام بالمسؤولية التي تحتل موقعا محوريا في النقاشات السياسية، كان يفترض أن يكون مخصصا للبحث في إيجاد المخارج والحلول، الى جانب تعيين المسؤوليات عمّا مضى.
ثانيا: ما يثير الأسى أن يغيب عن النقاش الجدي أيُّ اقتراح علمي لمشروع إنقاذي مبني على المعطيات الموضوعية والواقعية. بل الأدهى من ذلك، هو أن الواقع السياسي بمعظم أطرافه يلهث خلف الأزمة، ويدفع البلد في متاهة لحس المبرد. ودائما تأتي الصحوات متأخرة سنوات عن الاستحقاق الفعلي، والذي يُفترض أن تظهر فيه، ضمن منطق استباق الأزمات، وليس الجري خلف مسارها وانتظار انفجارها.
واليوم نحن أمام مثال حي لهذه البَلادة المزمنة في العقل السياسي اللبناني. فقد شكّل الدعم الحكومي لمحدودي الدخل والفقراء مخدِّرا يُجمّد انعكاس معضلة انهيار القدرة الشرائية. وقد طبِّق لسنوات بطريقة عشوائية، انطوت على هدر مليارات الدولارات. واليوم، وبعد الشحّ المالي الذي بلغ الخطّ الخطر، يصحو المسؤولون على حقيقة أن أموال الدعم لا تكفي، ويتحدّثون بكل فصاحة عن الترشيد، الذي ربما لو طُبِّق قبل سنوات لكان أمّن للبنان ذخيرة حقيقية، تؤجل الانهيار، وتعطي فسحة لبلورة الحلول الجذرية للأزمة الاقتصادية، التي تستدعي عملا منهجيا تراكميا، يسمح بالوصول الى واقع منتِج ومحصَّن ضد الأزمات.
ثالثا: إن عقلية المياومة الملازمة للنظام اللبناني، ورغبة القادة والمسؤولين في تنفيس الاحتقان آنيا، واتخاذ إجراءات يزعمون أنها الحلول الجذرية، ويبنون عليها وعودا وردية، هي سمات رافقت العقل السياسي اللبناني منذ زمن بعيد، ولم تخرج عن هذا الإطار معظم الجهات التي تعاقبت على السلطة والمواقع الوزارية. ولذلك كان الاستغراق في الحلقة المفرغة سيّد الموقف.
إن شقّ مسار جديد لإنقاذ لبنان وإعادة بناء اقتصاده الوطني، وبالتالي إنهاء الأزمة الخطيرة، يرتبط أولا وأخيرا ببلورة مشروع لإعادة البناء الوطني، تُحشد لتنفيذه القوى الشعبية، وتُعبّأ الجهود الوطنية كافة لإنجازه. ولن يكون الإنقاذ بضربة واحدة، بل هو مسار شعبي وسياسي واقتصادي، يفترض قبل كل شيء تحرّر الناس من أوهام الحلول الجاهزة والسريعة والاعتماد على الخرج. وهو يقتضي تحرّر اللبنانيين من فكرة الارتباط الأحادي بالغرب، والولاء لمراكز الهيمنة العالمية اقتصاديا وسياسيا.
رابعا: إن لبنان على هذا المفترق، وللخروج من حلقة الانهيار الخانقة والوصاية الغربية، يواجه تهديدا وفرصة في آن معا، وتحويل التهديد الى فرصة وفعل إنقاذي حقيقي، هو ما يجب أن تتجه اليه العقول والسواعد والإرادات. فخطر الانهيار والخضوع لوحوش النهب الاستعماري، والدخول طائعين في عبودية جديدة، هو ما يقدّمه الغرب اللصوصي النهّاب، الذي تُمثّل القروض أداة من أدوات استعباده لشعوب العالم الثالث. بينما تتوافر للبنانيين، من غير إدارة الظهر لخيار الشراكة الندّية مع أيٍّ من دول الغرب، فرصٌ حقيقية في تلك الشراكات، سبق أن اختبرها وأفاد منها الاقتصاد اللبناني، وخُنق جنينها بفعل فاعل، لإبقاء البلد تحت السيطرة الأجنبية، ومنعه من التطوّر والتحرّر تحت سيف التهديد بالخراب.
إن فرص النهوض من الكارثة ما تزال قائمة، رغم استهلاكنا لهوامش كثيرة وإضاعتنا للوقت. فما يجري اليوم هو الاستلحاق المتأخّر لانهيار وقع، وكان يمكن تلافيه. وبدلا من سجالات تبادل الاتهامات، يحتاج لبنان الى توحيد الجهود في إرادة وطنية تحرّرية لإعادة البناء على قاعدة الانتاج الوطني والتخلّص من الهيمنة الأجنبية والتبعية للغرب، وتثبيت توجّه جديد ينوّع مصادر الثروة، ويرعى القطاعات المنتجة، كما يحمي الشراكات المجدية في المحيط العربي والمتوسطي، حيث تتوافر فرص واعدة لشراكات متكافئة ومجدية صناعيا وزراعيا وتجاريا، وهي مصادر التنمية الحقيقية، التي تضمن الرخاء وفرص العمل، وتنهي ركائز الهيمنة اللصوصية، والأحادية الاستهلاكية.