عمليات الاغتيال والردّ النوعي… استراتيجيات عميقة: د. حسن مرهج
بين بداية ونهاية استراتيجية دونالد ترامب، ومحاولة إحداث أكبر قدر ممكن من التوترات والتحديات في المنطقة، تتجلى سياسة جديدة تجاه دول محور المقاومة. هي سياسة يبدو أنها سياق استراتيجي جديد، تعتمده الإدارة الأميركية بقيادة ترامب، والتي باتت خارج نطاق التأثير والسيطرة، لكن ضمن ذلك، من الواضح أنّ السمة الغالبة للمشهد المقبل في الشرق الأوسط، ستحكمه معطيات جديدة غاية في الأهمية، تتجلى بمحاولات جرّ دول المحور إلى حرب أميركية إسرائيلية، بُغية إحداث شرخ في منجزات محور المقاومة سياسيا وعسكريا. بدليل الاغتيال الأعمى والأحمق لـ كبير العلماء الإيرانيين في الدفاع النووي محسن فخري زادة، وما سبقه من اغتيال قاسم سليماني.
عند سماع نبأ اغتيال العالِم محسن فخري زاده، تتبادر إلى الأذهان تساؤلات تتمحور حول ردّ الفعل الإيراني، وما الغاية الأساسية لهذا الاغتيال، فضلاً عن التعمّق في توقيت هذا الاستهداف. هي تساؤلات من الصعب الإجابة عليها، نظراً لمعطيات صعبة ودقيقة تحكم المناخ السياسي والعسكري للمنطقة، يضاف إلى ذلك، أن لا مصلحة حقيقية لأيّ طرف إقليمي بالتورّط والانجرار نحو حرب ستكون كارثية بالمقاييس كافة.
مقاربة السياسات الأميركية الجديدة تجاه إيران وعموم دول محور المقاومة، تنطلق مع تولي ترامب منصبه في عام 2017، إذ أعلن بوضوح أنه يعتزم صياغة اتفاق جديد مع إيران، وبإعلانه أنّ المحادثات الجديدة يجب أن تشمل قضايا أخرى مثل قضية الصواريخ والنفوذ الإقليمي لطهران، لكنه انسحب من الاتفاق النووي، واتبع سياسة الضغط الأقصى على طهران، عبر فرض ما يسمّى بالعقوبات المعوقة على إيران.
حقيقة الأمر، فإنّ الهدف الأميركي والإسرائيلي ضمناً يتجلى في تحقيق أقصى الضغوط الاقتصادية على إيران، لإجبارها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات ذات العناوين الأميركية، والتي تشكل رئة إضافية لـ “إسرائيل” تُضاف إلى فسحة التنفس التي أُضيفت عبر الإمارات والبحرين، لكن إيران ذات الخطط الاستراتيجية، وذات الأهداف التي تتخطى أيّ بُعد اقتصادي ضاغط، وجهت صفعات عديدة للإدارة الأميركية، فقد بات واضحا أنّ سياسة الضغط القصوى التي انتهجها ترامب، ليس فقط لم تؤدّ إلى استسلام طهران، بل تمكنت إيران أيضاً وفي مقابل نقض الأطراف الغربية لالتزاماتها، من تقليص جزء كبير من قيودها النووية، سواء بشكل شرعي أو في إطار الاتفاق النووي.
يدرك الجميع أنّ ترامب وخلال إدارته، حاول مراراً جرّ طهران إلى مواجهة إقليمية بعناوين أميركية خاصة، لكن القدرة التخطيطية للقيادة الإيرانية تتمتع بمزايا من الصعب كسرها أميركياً أو “إسرائيلياً”، فـ طهران تغلبت على جلّ العقوبات الأميركية، وتمكّنت من بناء علاقات متشابكة مع كافة دول المنطقة، على قواعد الاحترام الدولي وبما يتناسب مع السياسة الإيرانية، هذا الأمر أفقد ترامب ونتنياهو ومن معهما وعيهم السياسي، وأفقدهم صبر الربع الساعة الأخير، وفي مثل هذه الظروف، فلا يوجد دولة في العالم كما إيران وصبرها الاستراتيجي، وبالنتيجة لم تقلل إيران من نفوذها الإقليمي فحسب، بل كثفت أيضاً الضغط على الولايات المتحدة في العراق وسورية، كما أعادت تنشيط برامجها النووية والصاروخية بعد اجتياز عقود من حظر الأسلحة عليها.
اغتيال العالِم الايراني محسن فخري زادة لا شك بأنه مؤلم، ويأتي في توقيت حساس للقيادة الإيرانية، وقد يكون خسارة لا تُعوّض إيرانياً، لكن في عمق هذه العملية تتجلى لنا عدة نقاط يُمكن إيجازها بالآتي:
أولاً– تسعى واشنطن وتل أبيب وبعض الدول الإقليمية، إلى محاولة تعطيل دورة التقدّم التكنولوجي في إيران، لكن في المقابل، وعلی الرغم من أنّ فقدان العلماء النوويين هو خسارة كبيرة لإيران، وأنّ الشهيد “فخري زاده” قدَّم خدمات جليلة لتطوير هذه الصناعة وازدهار البلاد واستقلالها، فلا شك أنّ صناعة الدفاع النووي هي دورة كبيرة قائمة على العلم والمعرفة ولا تعتمد على فرد محدّد، والعديد من الطلاب الذين درَّبهم فخري زاده سيتمكنون من مواصلة دربه وملء فراغه جيداً.
ثانياً– يرى مراقبون، بأنّ الدعاية الإعلامية الغربية تسعى إلى تصوير اغتيال فخري زاده على أنه إنجاز استخباري كبير لوكالة المخابرات المركزية والموساد، بينما الحقيقة هي أنّ الكثير من المعلومات الحساسة حول الصناعة النووية الإيرانية قد تسرّبت إلى المخابرات الأميركية والإسرائيلية، من خلال تعاون طهران الطوعي مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وهنا ومن منطلق شخصي ينبغي توجيه اتهام غير مباشر للوكالة الدولية للطاقة الذرية، لجهة تسريب معلومات عن العالم محسن فخري زادة لكلّ من المخابرات الأميركية و”الإسرائيلية” وحُكماً السعودية.
ثالثاً– عملية الاغتيال بلا شكّ تطرح هواجس لدى وكالات الأمن والاستخبارات الإيرانية، فنجاح عملية الاغتيال تفرض ضرورة اتباع نمطاً جديداً في عمليات المراقبة والتغطية والتمويه، خاصة أنّ العلماء الإيرانيين موضع استهداف دائم، لكن حقيقة الأمر، وبالنظر إلى المحيط الإقليمي المتوتر منذ عقد كامل، فهنا لا ينبغي أن ننسى أنّ المنطقة شهدت استقرار جُزئي لعقود طويلة، لكن التدخلات الأميركية والإسرائيلية وحتى من قبل بعض دول الإقليم، والدعم الكبير للجماعات الإرهابية المتربصة بدول المحور، كلّ ذلك وضع الأمن الإيراني في تحديات متعددة، وبالتالي من الطبيعي والمنطقي أن يحدث خلل أو سوء تنسيق حيال الشخصيات الإيرانية، في ظلّ موجات إرهابية تتخطى الحدود.
رابعاً– الغاية الأساسية لماهية عملية الاغتيال تتعلق بمحاولة جرّ إيران إلى ردّ يكون بمثابة الشرارة الأولى لحرب عالمية ضدّ طهران، لكن مسألة انزلاق الجمهورية الإسلامية إلى حرب توقيتها أميركي وصهيوني، أمر بالغ الصعوبة بل ومستبعد نتيجة الوعي الاستراتيجي بعيد المدى للقيادة الإيرانية، والردّ على أيّ استهداف لـ إيران سيكون مدروساً وبدقة بالغة، وبمعنى آخر قد يكون ردّ إيران سياسياً، إذ أنّ طهران تنتظر إدارة الرئيس المنتخب بايدن، وانتهاء ولاية ترامب، لأنهم يعوّلون كثيراً على بايدن الذي أكد سابقاً إلى إعادة الاتفاق النووي مع إيران.
باختصار، نقول لكلّ المتربصين بالجمهورية الإسلامية، لا تراهنوا على الدولة التي تمكّنت بخبرات محلية، من قطع أشواط في كافة المجالات، حتى وصلت الفضاء، على الرغم من الحصار والعقوبات الغربية على إيران، فالذين يتعاملون بحماقة مع النهج والفكر والسياسية الثورية، عليهم قطع أشواط كبيرة للوصول إلى ما تتقنه إيران في صبرها وصمودها الاستراتيجي…
(البناء)