العمى اللبناني بعد الانهيار
غالب قنديل
ما حصل من انهيار اقتصادي خطير يدعو، في أي مجتمع، الى عدم الرضوخ للبديهيات الافتراضية التي حكمت النموذج السياسي والاقتصادي ما قبل الكارثة، التي يتفق الجميع على أنها مقيمة، ومرشّحة للتفاقم والتفاعل خلال الفترة المقبلة.
أولا: إن علاقات لبنان بمحيطه هي أحد الأبعاد المكوِّنة لوضع البلد ولإمكاناته، وفيها تتوافر على الدوام فرصٌ للحصول على عائدات وموارد داعمة لمسار النمو والازدهار الاقتصادي، وهذا ما تبرهن عليه الوقائع، التي تَشكّل منها تاريخ الاقتصاد اللبناني القريب والبعيد.
إن النهوض من واقع الانهيار الحالي مستحيل بدون رؤية اقتصادية جديدة، تضع في اعتبارها الشراكات الإقليمية والعربية، والتحولات التي شهدتها المنطقة اقتصاديا، وهو أمر لا غنى عنه. ومن المستحيل أساسا التفكير في واقع أي بلد، على الصعيد الاقتصادي، بمعزل عن الشراكات التي لا بدّ منها للاقتصاد. وتلك حقيقة حاكمة في جميع العلاقات الاقتصادية على الصعيد العالمي، ولا يمكن لأي بلد كبيرا كان أم صغيرا في عالم اليوم، وحتى في العصور الغابرة، أن يبني نموذجه الاقتصادي بصورة منعزلة عن المحيط الإقليمي والدولي الذي يعيش فيه، وهو بيئته الطبيعية، الإنسانية والاقتصادية. وجميع نظريات الاقتصاد السياسي المعاصرة تعطي وزنا حاسما لهذا البعد في تعاملها مع الأوضاع الاقتصادية للبلدان في الظروف الطبيعية أو الاستثنائية على السواء.
ثانيا: إن تاريخ لبنان وتجربته الاقتصادية يدلّان على أهمية حاسمة للشراكات العربية والدولية التي ربطت الاقتصاد اللبناني، وكانت قاعدة الازدهار والنمو في جميع المراحل السابقة. وبغضّ النظر عن رؤيتنا للتشوّهات التكوينية اللبنانية التي أدت الى الانهيار، بنتيجة التبعية لهيمنة الغرب، واعتماد نمط اقتصادي ريعي، وإدارة الظهر لبناء قطاعات إنتاجية، كان ينبغي أن تكون القوة الاقتصادية التي تشكّل ضمانة وجودية للبلد ولاستمراره، مع تراجع مراحل الازدهار الخدماتي وتقلّص الريوع، وانهيار النموذج الذي استسلم له اللبنانيون، وأنِسوا لازدهاره الخادع، وتورّمه غير الصحي.
ومن المؤسف اليوم أن تسود أحادية مريضة في رؤية موقع لبنان الاقتصادي باستمرار الاستسلام للارتباط بالهيمنة الغربية، وأن تغيب كليا عن الرؤى والمشاريع السياسية والاقتصادية أي فكرة أو رؤية اقتصادية جديدة، تتصل بدور لبنان الاقتصادي في بيئته العربية والإقليمية، والشراكات التي تسمح له في هذا المحيط بتأمين فرص نادرة لمراكمة الثروة، ولبناء اقتصاد جديد صلب ومنتج على أنقاض النموذج الريعي الذي انهار، وتبين أنه غير قابل للحياة.
ثالثا: إن أي عاقل أو حصيف يدرس المعطيات والأرقام والخصائص الإقليمية، لا يمكن أن يجد فرصة للخروج من حلقة الانهيار الخطيرة من غير رؤية اقتصادية، تنطلق من قاعدة صلبة لشراكات لبنانية مع العراق وسورية وإيران. ورغم أنوف المناكفين من عملاء الغرب والمستلبين بالهيمنة، الذين يرددون تعليمات أسيادهم، فإنه لا طريق آخر للتنمية والاستقلال أو للإنقاذ على الأقل، أمام اللبنانيين الذين يجب أن ينطلقوا من حقيقة أن زمن انتظار قروش السمسرة والعمولات والتلاعب الريعي قد انقضى، وأننا بتنا أمام تحدي بلورة رؤية جديدة لإعادة بناء الاقتصاد، ولتعريف دور لبنان، فـ “زمن أول قد تحوّل”، وتمنيات العودة اليه ليست سوى ضرب من هذيان من يبكون على الأطلال الدّارسة.
لقد دعونا، وندعو مجددا جميع المثقفين والخبراء الى النقاش المجدي في كيفية إعادة البناء الوطني على قاعدة الاستقلال والتنمية، وبصورة تنطلق فيها عملية إعادة البناء بتصورٍ للشراكات الإقليمية والعربية، التي هي ركيزة الدور المأمول والازهار الذي يصبوا اللبنانيون الى استعادته، ورغم حماسنا لضرورة فتح الدفاتر والمحاسبة على ما مضى، ومن غير تغييب ذلك، نعتبر الأولوية التي لا تقل أهمية و راهنية هي بلورة خطة لإعادة البناء الوطني على قواعد جديدة، وهذا هو التحدي الأهم.
ليست المهمة مستحيلة، لكنها مثل كلّ التحديات تتوقف على امتلاك الوعي وبناء الإرادة، وهذا ما ندعو الى أن يكون عنوان ومحور النقاش الوطني الذي لا يؤجّل.