المسكنات محكومة بأجل وساعة الحقيقة تقترب
غالب قنديل
خففت التدابير التي اتخذتها الحكومة بهدف الحدّ من المعاناة المعيشية وارتفاع الأسعار، وساهمت بعض التدابير في الحفاظ على تدفق السلع الضرورية الى الأسواق بتطبيق قواعد لدعم الأسعار وفق لوائح أولويات، ارتُجلت أحيانا، وبآليات شابتها ثغرات كثيرة، لكنها خففت من حدة الأزمة وانعكاساتها.
أولا: هذا الوضع الاستهلاكي الصعب الذي يعيشه اللبنانيون، ويحاولون التكيّف معه كان أخطر سمات الانهيار الاقتصادي الكبير. وليس صحيحا أبدا أنه كان محتوما أو مفاجئا. فقد كان واقع الاقتصاد يشير الى حقيقة أن انفجار الأزمة ليس بعيدا، وأن البلد دخل مرحلة لحس المبرد منذ أكثر من سنة. والجميع كان يعرف من بين المسؤولين والقادة السياسيين والنقابيين أن مداواة نتائج الكارثة الناجمة عن الانهيار الكبير تجري بمسكنات مؤقتة.
وقد سعت الحكومات التي تعاقبت في الأعوام الثلاثة الأخيرة الى شراء الوقت في تعاملها مع الأزمة الاقتصادية والمالية التي انفجرت، ولم تطرح أيّ منها، وسائر القيادات السياسية في البلاد أي مقترحات جدية للمعالجة ومنع الانفجار. وكان السباق الفعلي بين الجهات السياسية المتنافسة على هوامش شراء الوقت بالمزيد من الدين العام، وبإيهام الناس بجدوى المسكنات المؤقتة التي اعتمدت، كسلة السلع المدعومة التي اختيرت بعشوائية ولم تُبنَ على دارسة علمية. ويمكن أن يُقال الكثير من الملاحظات على تدقيق لوائحها وآلياتها بما يسمح بتوسيع الفائدة من اعتمادها، وخفض التكاليف الفعلية ومنع التسرّب لغير المستحقين.
ثانيا: تحكمت بالنادي السياسي في التعامل مع الأزمة الاقتصادية الخطيرة عقلية المياومة وشراء الوقت. وقد طغى الاستعجال والارتجال على جميع الخطوات والتدابير التي اعتمدتها الجهات الحكومية. ومع احترامنا لجميع الأعذار التي يجب أن تُناقش بتجرد، وسائر الأسباب التخفيفية التي يوردها المسؤولون أمام أزمة غير عادية، فإن الحقيقة التي يجب أن يقرّ بها كل مسؤول لبناني، هي أن ما حصل كان متوقعا، وهم لم يكونوا بمستوى المجابهة والمسؤولية، بسبب عقلية الارتجال، وغياب المنهجية العلمية في التعامل مع الأزمات والمشاكل، وفقدان النظام السياسي اللبناني لآليات قياس الأزمات، ناهيك عن القدرة على استباقها والتحسّب لها. فاللهاث خلف الانهيار سيطر على السنوات الأخيرة، وأبدى الفرقاء السياسيون بلادة استثنائية وغير مسبوقة في التعامل مع المؤشرات، وتجاهلوا علامات الكارثة التي كانت نذيرا يَفترض النفير الوطني، وإقرار الخطط والبرامج المهيأة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في البلد اقتصاديا وماليا.
ويجب الاعتراف بأن الخفة والاستهتار والانسياق بتلقائية خلف عوامل أزمة معروفة وظاهرة لكل من يدرس ويحلل علميا، صدمت الناس بالكارثة المكلفة، والتي لا تبدو بوادر حلها قريبة، في حين انسحبت جحافل القادة والزعماء الى الظلال، وتوارت عن الواجهات التي احتلتها طويلا.
ثالثا: لسنا في وارد توزيع المسؤوليات أو محاكمة أي جهة سياسية، لكن ما يجب أن يُقال أن ما حصل لم يكن قدرا أعمى، وأن الأحزاب والقوى السياسية في أي مجتمع لا تملك في نظر الناس حقّ ادعاء المفاجأة عند وقوع الكارثة. ويملك الجمهور كامل وجاهة السؤال: أين كنتم غافلين؟، عن أزمة غير عادية يقترب زلزالها، بعد اعتمال طويل تحت أنظار جحافل القيادات والأحزاب والجمعيات المعادية لها والنقابات. ولم نسمع أيا من هؤلاء جميعا يحذر من الزلزال الذي وقع، ويطرح برنامجا وطنيا لمنع الكارثة الكبيرة.
وإذا استثنينا بعض الأصوات المعزولة والجماعات السياسية الصغيرة البعيدة عن الواجهات وعن مواقع المسؤولية وعن تشكيلات ما يُسمّى المجتمع المدني، فقد كشف الانهيار عيوب الجميع في الموالاة والمعارضة، لأنهم لم يستشعروا الخطر قبل وقوعه، ولم يطلقوا أي تحذير منهجي، ولم يتقدموا ببرامج إنقاذية، بل غلبت في المناكفات السياسية لهجة تبادل الاتهامات بالمسؤولية والقعود عن واجب العمل معا في سبيل الإنقاذ. ففي جميع الدول عندما تقع الكارثة تُطرح أشكالٌ للحكومات وللعمل السياسي تَطوي خنادق الانقسامات والمناكفات لصالح مبدأ الخلاص الوطني، وتتنادى القوى السياسية للعمل تحت لواء الوحدة الوطنية.
ما حصل بعدد الكارثة كان معيبا في وتيرة تقاذف الاتهامات بدلا من رصّ الصفوف. وينبغي الإقرار بأن الفريق الوطني، الذي تقدّم بشجاعة لحمل المسؤولية مع حكومة الرئيس حسان دياب، كان صاحب موقف مسؤول، لم تقابله الجهات المعارضة، بما فيها ما يُسمّى بالمجتمع المدني، بالتخلي عن المناكفة والانتقال الى سلوك يتناسب مع المسؤولية الإنقاذية. وهذا أمر ساهم، وما يزال، في إضعاف التضامن الوطني المطلوب لتجاوز الكارثة.