مسار “التطبيع” وسبل المواجهة
غالب قنديل
التحركات الأميركية الخليجية على مساحة المنطقة تراكم عناصر تغيير نوعي في البيئة السياسية والاستراتيجية للشرق العربي، مع توسّع مساحة الاختراق الصهيوني لأمنه ومساحات التطبيع الاقتصادي بين مزيد من الدول العربية وكيان العدو.
أولا: لا يمكن، ولا ينبغي الاستخفاف بهذه التحولات، التي تتوّج عقودا من الهيمنة الأميركية – الغربية على المنطقة، ومن الاختراق الصهيوني الخطير اقتصاديا وأمنيا وسياسيا. وكلّ من يقلل من خطورة ما يجري في هذا المجال، يساهم في توهين اليقظة الوطنية والقومية المطلوبة لمجابهة خطر غير عادي. والأمر يستدعي وقفة شاملة وطنية قومية وجذرية أيضا أمام تعدّد الجبهات التي لم تكن يوما جبهات مقاومة للهيمنة الصهيونية – الأميركية – الغربية، ولا حتى جبهاتٍ مسانِدة. لكن انتقالها الى موقع ارتكاز لهيمنة شاملة استعمارية صهيونية ليس بالأمر العادي الذي يمكن تجاوزه أو تجاهله. فبكل صراحة حصد الأميركيون في زمن قياسي مجموعة من المكاسب لمصلحة الكيان الصهيوني، وأحكموا قبضتهم السياسية والاقتصادية في مواقع كانت خارج الهيمنة المطلقة حتى سنوات قريبة.
إن التحولات الجارية في الوطن العربي تتسم بخطورة شديدة، وهي الأولى من نوعها منذ معاهدة كامب ديفيد، التي لم تستطع أن تكتسي صفة الاندفاعة المتجدّدة. بل إن نتائجها على سكة التطبيع المصرية الصهيونية والاردنية نفسها كانت محدودة. بينما نواجه اليوم بحق خطرا كبيرا، يوسّع من دوائر التغلغل الصهيوني الاقتصادي والأمني في الوطن العربي، بانضمام دول جديدة الى قافلة المطبّعين مع العدو الصهيوني، بما يستتبع ذلك من تنسيق أمني واستخباراتي وشراكات اقتصادية ومالية مع هذا الكيان. وهو ما يرسم خارطة جديدة لتوازن القوى الاقتصادي والعسكري والأمني والاستراتيجي في البلاد العربية.
ثانيا: إن هذه النقلة الجديدة في واقع البلاد العربية هي مؤشر الى وجهة التحوّل في منظومة الهيمنة الغربية على المنطقة، بحيث بات النفوذ الصهيوني ملازما بصورة سافرة لتوسّع النفوذ الغربي اقتصاديا وماليا وسياسيا، وبالتالي أمنيا. وعلى العرب أن يستعدوا لمرحلة جديدة تتّسم بصورة رئيسية بخضوع بلدانهم للسيطرة الغربية الصهيونية. وهذا هو المآل الواقعي لمسار الهيمنة الغربية النهّابة، ولمسيرة الاستسلام للكيان الصهيوني، التي تراكمت عناصرها على مدار عقود، وبدأت بحصاد نتائج ما زرعته بفضل الرعاية الأميركية – الأوروبية منذ عام النكبة 1948 حتى اليوم.
والحقيقة أن الوقائع الجارية في الوطن العربي، من المحيط الى الخليج، هي ثمرة تخطيط استعماري غربي قديم. ولن يطول الزمن حتى تتكشّف جوانب جديدة ومهمة من الخطة الجهنمية واللصوصية، التي رُسمت للسيطرة على جميع البلاد العربية، وكسر إرادة التحرّر الوطني لصالح الشركات الاحتكارية الغربية ووكلائها الصهاينة. والخطة قديمة قِدم الانتداب الأجنبي في عشرينات القرن الماضي. وقد أخّرت مسارها مقاومة حركة التحرّر العربي في مصر وسورية وفلسطين ولبنان خلال العقود الماضية. واليوم يتطلّب التصدي للهيمنة اللصوصية الغربية الصهيونية تجديد حركة التحرّر، وانتشالها من حالة الانكسار والإحباط، وهو ما يستوجب كفاحا متعدّدَ المستويات فكريا وسياسيا وثقافيا، والتأسيس لاستنهاض الوعي القومي بلغة جديدة، تنعش إرادة التحرّر لدى الأجيال الشابة على أنقاض ثقافة الاستسلام ومنطقها الإنهزامي.
ثالثا: أمام هذا التحدي، المطلوب هو إطلاق مبادرات فكرية وثقافية على الصعيد القومي، تعزّز إرادة المقاومة والتحرّر على أساس وحدة المصير، وتبدّد الإنهزامية، المطلوب مقاومتها فكريا وثقافيا وإعلاميا وفنيا، بجميع الأشكال المناسبة.
إننا نوجّه الدعوة الى جميع المبدعين العرب أنصار التحرّر من الهيمنة ودعاة الاستقلال ومقاومة الاستعمار بكل أشكاله الى توحيد الجهود في مقاومة ثقافية فكرية شاملة وجذرية، لإنهاض حركة وعي جديد على الصعيد القومي، بعيدا عن جميع المماحكات وعن السفسطة الفارغة والادعاءات التافهة. فالتحدّي الحقيقي الذي نواجه اليوم ليس أمرا عارضا ولا هامشيا، بل هو خطر وجودي وحضاري، ينبغي أن نوظّف في التصدي له جميع عناصر القوة التي بحوزة معسكر المقاومة والتحرّر، وبلورة مقوّمات إنهاض تيار شعبي عارم بين المحيط والخليج، يرفع راية التحرّر الوطني والقومي، ويكنس ترسّبات الانهزام أمام الغزوة الاستعمارية الصهيونية. ونقول لليائسين إن التجربة تعلّمنا أن إرادة المقاومة تنهض دائما بعد الانكسارات، لأنها جزء من ميراث أمتنا.
التحدي الراهن اليوم فكريا وثقافيا وسياسيا هو التلاقي بين جميع الأحرار لبلورة مشروع نهضة تحرّرية، تشارك فيها جميع التيارات المعادية للاستعمار ببرنامج وطني وقومي، وبأساليب عمل جديدة، تُبنى على خبرة التجارب التاريخية السابقة بإخفاقاتها وإنجازاتها. وتلك هي إشراقة الأمل التي تمزّق ليل الإحباط.