لبنان أمام تحدّيين: التفكك والتشظّي أو النهوض بنظام سياسي مغاير: د. عصام نعمان*
لا دولة في لبنان. ليس أدلّ على ذلك من اضطرار أركان السلطة الى إلغاء الإحتفال بعيد الاستقلال.
عندما لا تكون دولة، لا يكون استقلال. ما يسمّى استقلالاً كان في الواقع استقلال زعماء الطوائف بالبلاد، أيّ استحواذهم عليها بمعزل عن الشعب وتصرّفهم بها تصرّف المالك بملكه.
هذا الاستحواذ المسمّى مجازاً استقلالاً دام 77 عاماً حتى انكشافه بالانهيار المالي والاقتصادي عشيةَ اندلاع جائحة كورونا، ثم بالانفجار الهائل في مرفأ بيروت والدمار الذي قوّض شطراً من العاصمة.
قبل انكشاف غياب الدولة الفاضح، كان لبنان بلا حكومة. فقد استقالت حكومة حسان دياب بعد أربعة أيام من انفجار المرفأ في 4 آب/ أغسطس الماضي ولمّا يتمكّن أطراف المنظوفة الحاكمة بعد من تأليف حكومة بديلة. هل تقوم حكومة أصلاً في غياب دولة؟
يعزو بعض المتضرّرين والمحلّلين والمنجّمين العجز عن تأليف حكومة جديدة إلى خلافاتٍ مستشرية بين أركان الكتل البرلمانية المتنافسة على تحاصص الحقائب الوزارية. بعضهم الآخر يعزو المعضلة الى ضغوط شديدة تمارسها إدارة ترامب الذاوية بقصد حمل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وفريقه السياسي على فكّ التحالف مع حزب الله الذي تعتبره الولايات المتحدة تنظيماً إرهابياً وعدواً عنيداً ومهدّداً لأمن الكيان الصهيوني ولمصالح أميركا في الإقليم.
الرئيس عون وصهره رئيس حزبه جبران باسيل قرّرا عدم الإذعان لطلب إدارة ترامب، ما حملها أخيراً على فرض عقوبات على باسيل بدعوى تعاونه مع حزب الله وتقديم تسهيلات له، ولم تتوانَ أيضاً عن اتهامه بالفساد.
إلى ذلك، تبيّن انّ «الدولة العميقة» في أميركا تتطلع الى أبعد من مسألة إبعاد حزب الله عن المشاركة في الحكومة. فهي ترنو الى إبعاد حلفائها من السياسيين الفاسدين المسؤولين عن الانهيار المالي والاقتصادي واستبدالهم بشبكة جديدة من القياديين الناشطين في تنظيمات المجتمع المدني ( NGO).
في هذا السياق، يشارك أصدقاء أميركا الجدد بنشاط في الحملة الوطنية لمكافحة الفساد، غير أنهم يحرصون خلالها على اتهام حزب الله بأنه يحمي الفاسدين، وفي مقدّمهم جبران باسيل، ليضمن تأييد التكتل البرلماني العوني في الصراع السياسي الداخلي وفي تشكيل الحكومة الجديدة.
ما من مؤشر الى انّ الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن ستكون له سياسة مغايرة بعد تسلّمه السلطة في 20 كانون الثاني/ يناير المقبل. ربما ذلك ما دفع رئيس مجلس النواب نبيه بري، حليف حزب الله، الى تحذير معرقلي تأليف الحكومة الجديدة بقوله: «إذا كان البعض ينتظر وصول بايدن الى البيت الأبيض، فليس مؤكداً أننا سنصمد الى ذلك الوقت».
تحذير بري موجّه ضمناً الى الفريقين السياسيين المتصارعين: خصوم حزب الله من أنصار أميركا ومنافسي التكتل العوني من جهة، ومن جهة أخرى تحالف التكتل العوني وحزب الله اللذان يتعرّضان لضغوط أميركا وعقوباتها الاقتصادية. فالمقصود بعبارة «ليس مؤكداً أننا سنصمد الى ذلك الوقت» هو البلد كله في غمرة الضغوط الأميركية والانهيار المالي والاقتصادي وتداعيات انفجار مرفأ بيروت واستشراء الفساد وضيق العيش وتردّي الأمن. على كلّ حال، ما قاله بري تلميحاً جهر به معاونه في اليوم التالي تصريحاً.
إنّ الاستمرار في هذه الحال يؤدّي الى تفكيك ما تبقّى من بنية الدولة المترهّلة والى تشظّي البلاد الى كيانات طائفية متسلّطة ومتباعدة. فهل هذا ما يريده او يرتضيه اللبنانيون الوطنيون الاحرار؟
ثمة قياديون في صفوف القوى الوطنية التقدّمية كما في صفوف المتنوّرين من أنصار المقاومة وحلفائها في شتّى المناطق يرفضون الاستمرار في هذه الحال ويحذّرون من مغبة تمادي فريق من السياسيين الطائفيين والفاسدين في التمسّك بسياسة المحاصصة من جهة والرهان على تدخلات قوى خارجية معادية للمقاومة من جهة أخرى. القياديون هؤلاء يدعون الى الكفّ عن نهج التسامح مع القوى الداخلية والخارجية المعادية للمقاومة والتي لا يهمّها وحدة لبنان وشعبه ولا الوفاء بوعودها الجوفاء بشأن العون المالي والاقتصادي لإخراجه من محنته، لذا يطالبون القوى الوطنية والتقدمية وأنصار المقاومة في شتى المناطق والطوائف كما النواب الوطنيين بتحمّل مسؤولياتهم وذلك بإقامة جبهة عريضة تضمّ القوى الوطنية الصادقة كلها لا سيما تلك التي تعاديها الولايات المتحدة لأسباب تتعلق بمصالح «إسرائيل»، وبتأليف حكومة انتقالية راديكالية لمواجهة تحديات المرحلة الراهنة بالتدابير الآتية:
أولاً: مواجهة الضائقة المعيشية المستفحلة بتأمين الأغذية (المواد الأساسية) والأدوية والوقود (الكهرباء والبنزين والمازوت) بأسعار مدعومة.
ثانياً: تشكيل هيئة للتدقيق المحاسبي والمالي والجنائي في حسابات مصرف لبنان المركزي والمصارف وحسابات الدولة، تتألف من قضاة ديوان المحاسبة ونقباء خبراء المحاسبة، بالإضافة الى شركة تدقيق لبنانية موثوقة، وتكليف هذه الهيئة التحقيق في الأموال المنهوبة والمهرّبة الى الخارج وإحالة المخالفين على محكمة خاصة لمحاكمتهم.
ثالثاً: تصفير الفوائد على الدين العام، وتصفير الضرائب على المواطنين، ورفض شروط صندوق النقد الدولي لفرض ضرائب جديدة وخصخصة مرافق عامة.
رابعاً: إلغاء ودمج الإدارات والمؤسسات العامة بمعيار جدواها الاقتصادية بغية إنهاء إهدار المال العام.
خامساً: إقرار قانون السلطة القضائية لكفالة استقلالية القضاء وتأمين العدالة وحكم القانون.
سادساً: التوجّه شرقاً من دون التخلي عن اصدقاء لبنان غير المؤذين في الغرب وذلك بغية الإفادة اقتصادياً وتنموياً من الصين وروسيا وإيران والعراق، والانفتاح على سوريا ومفاوضتها برعاية الأمم المتحدة لإعادة النازخين السوريين الى ديارهم.
سابعاً: وضع قانون للانتخابات يؤمّن صحة التمثيل الشعبي وعدالته بمراعاة أحكام الدستور لا سيما المادة 22 (مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف) والمادة 27 («عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء» ما يستوجب الدائرة الوطنية الواحدة) والتمثيل النسبي، وخفض سنّ الإقتراع الى الثامنة عشرة، على ان يُصار الى طرحه بقرار من الحكومة على استفتاء شعبي لإقراره واعتماده عملاً بنظرية الظروف الاستثنائية التي تستوجب تدبيراً استثنائياً في حال نشوء ظرف استثنائي، وهو حال البلاد قبل كارثة 4 آب وبعدها، وإجراء انتخابات عامة وفق قانون الإنتخاب الجديد لتوليد اول مجلس نواب يؤمّن صحة التمثيل الشعبي وعدالته، فيشكّل بحدّ ذاته مؤتمراً تأسيسياً لإعادة بناء لبنان دولةً ووطناً.
هل من سبيل آخر أجدى وأفعل، مرحلياً، لضمان وحدة لبنان واستقلاله وإنمائه وازدهاره؟
_ نائب ووزير سابق
(البناء)