كفى جدالا في الحواشي
غالب قنديل
يتمحور الاهتمام السياسي في البلد حول تقاذف المسؤوليات عن الانهيار الذي حصل. وهو في الواقع نتيجة الانسياق عشرات السنين في نظام سياسي واقتصادي ومالي، خرّب الإنتاج، وعزز الريعية، وكرّس التبعية للهيمنة الغربية.
أولا: إن أي بحث عن الحلول بحصر النقاش في توزيع المسؤوليات وتقاذف الاتهامات، هو تغميس خارج الصحن. فالأسئلة الجوهرية، التي ينبغي على أي جهة مسؤولة أن تجيب عليها، تتعلّق بكيفية الخروج من حلقة الانهيار الكبير، وبمضمون البناء الاقتصادي الجديد، وبمستلزمات ذلك البناء لجهة تعيين دور لبنان الاقتصادي الإقليمي والدولي. وكلّ الجدالات الدائرة حول توزيع المسؤوليات في واقعنا السياسي، على أهميتها، إلا أنها جاءت بعد سقوط الاستقرار الخادع والكاذب، وانكشاف الكارثة، التي قِيدت اليها البلاد بسبب قيام السياسات الاقتصادية والمالية، منذ بدء العهد الإعماري، على نهج خاطيء ومدمّر، استنزف موارد الثروة الحقيقية، وأغرق البلاد في الدوامة الخطيرة، التي انتقلت بنا الآن الى شفا الكارثة ونضوب موارد الثروة. ويكذب من يصوّر للناس أن حلّ المعضلة الكبيرة والكارثية كامن، فحسب، في استرجاع أموال مختلسة. إن حقيقة وجود مالٍ عام مسروق في خزائن وأرصدة بعض القوى السياسية النافذة ليست هي ما يختصر المعضلة اللبنانية. وتوهُّم إمكانية استرجاع المال العام المسروق لحلّ المعضلة ووقف الانهيار، سيتكشّف عن حلّ افتراضي خادع وغير عملي بفضل النظام الطائفي القائم في البلاد.
الجميع يعرف أن نظام التوزيع الطائفي للمسؤوليات، وغياب البنية الإنتاجية المولّدة للثروة، وبنية التقاسم الريعي، التي شكّلت قاعدة السلطة السياسية، هي العوامل الحقيقية للانهيار الحاصل. ولا يفيد في التعامل مع الواقع الراهن تقاذف المسؤوليات أو إلقاء تبعة الكارثة على جهة معينة أو أكثر من أطراف النظام السياسي.
ثانيا: المخرج الفعلي من هذه الكارثة يرتبط بالتخلي عن النموذج الريعي غير المنتج لصالح إعادة البناء الوطني الجذري، على قاعدة هيكلية جديدة للاقتصاد الوطني، تعتمد على القطاعات الإنتاجية، وتقوم على إحياء موارد الثروة الوطنية، وتنهي النموذج الريعي التابع للهيمنة الأجنبية. وهذا أمر مستحيل من غير اعتماد توجّه حاسم لصالح إحياء الزراعة والصناعة وجميع فروع الإنتاج، التي يمكن إحياؤها أو استحداثها. ويجب أن يعلم اللبنانيون أن ضآلة الحجم الذي مثّلته الزراعة والصناعة في التكوين الإجمالي لاقتصادهم كانت مخجلة جدا لصالح فروع هامشية غير منتجة. وهذا ما خدّرهم لعقود، صُدموا بعدها بأيدٍ فارغة وبدينٍ عام خطير، تآكلت في فاتورته موجودات وأرصدة هالكة، تبدّدت فجأة.
الأمر لم يحدث فجأة في الواقع. لكن القوى السياسية والحكومات المتعاقبة، والاستشارات الغبية المسمومة، بما فيها تلك التي أوردت جانبا من الحقيقة،أغفلت حقيقة النموذج المشوّه وطبيعة التغيير المطلوب، رغم أشار بعضها الة وجوه الخلل وهشاشة النظام الاقتصادي والمالي، منذ بعثة إرفد في ستينات القرن المنصرم.
ثالثا: ما يحتاجه لبنان اليوم هو برنامج يقوم على إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني، وإنهاض القطاعات المنتجة، والتخلّص من النموذج الريعي، والتحرّر من مخالب الهيمنة الغربية اللصوصية بإزاحة ركائز التبعية من بنيان الاقتصاد، ومن السلطة السياسية كذلك. وهذه الورشة لا يمكن تأجيلها. وتحاول الشرائح الاجتماعية الريعية، والتي سيطرت على النموذج اللبناني، أن تمنعها أو تؤجلها، بحرف النقاش الوطني خارج مسار البحث عن الحلول الجذرية للمأزق، وبإغراق الواقع السياسي في مستنقع المسكّنات والحلول غير الجدية، لاعتراض أيّ مسٍّ بمصالح المستفيدين من النموذج الريعي التابع، في لبنان والخارج.
الحلّ الحقيقي يقوم بالتحرّر من أيّ هيمنة أجنبية، وبإعادة بناء وطني شاملة للاقتصاد ركيزتها الجديدة الانتاج وإعادة صياغة وظائف الخدمات على هذا الأساس. وكلّ طريق آخر يُدفع النقاش الوطني اليه هو هدر للوقت وللجهد، واستجابة لمحاولات الغرب دفع اللبنانيين الى التناحر الداخلي، بدلا من رصّ الصفوف للتحرّر من الهيمنة وإعادة البناء الوطني، التي هي ما يحدّد معايير الفرز والمحاسبة المستحقة في الداخل. وهذه معادلة سبقتنا اليها بلدان كثيرة، اجتازت محنة كالتي نعيشها اليوم بإرادة وطنية تحرّرية صلبة.