كيف نكسر الحلقة المفرغة؟
غالب قنديل
تتجمّع الأزمات والمشاكل التي تقف خلف مزيد من المعاناة الشعبية، وتفاقم وتائر القلق على المصير ،الذي يعيشه اللبنانيون بمعظمهم، باستثناء القلة المترفة، التي كنزت ثروات طائلة، وتواصل حصاد الأرباح، ولو على مآسي الناس. فعند هذه القلة تتحوّل المآسي الى مواسم تترصّد وجوه استغلالها الممكن ومراكمة الأرباح في منظومة هيمنة وسيطرة ونهب، هي ما تبقى من النظام اللبناني المتداعي، والذي تبيّن بالتجربة أنه أقوى وأصلب مما تخيّل جميع معارضيه خلال عقود.
أولا: الكارثة الصحية والاجتماعية الراهنة جاءت لتشكّل رديفا لمفاعيل الأزمة الاقتصادية والمالية الخطيرة. وقد وجد المتربعون على رأس البنيان الاقتصادي والمالي ضالتهم في ذريعة الإقفال الذي فرضه كورونا، ليتنصّلوا من مسؤولية المآسي الاجتماعية، التي تسبّب بها النظام الريعي التابع للهيمنة، والذي دمر فرضة التنمية وخرّب أنوية القطاعات المنتجة للثروة، وفرض إلحاق البلد بنموذج استهلاكي أجوف لا ينطوي على مقوّمات الاستمرار والصمود، بل هو سريع العطب أمام الأزمات بفعل تكوينه الريعي الهشّ.
المفارقة الصادمة في هذا النظام أنه ما زال العقيدة السائدة لدى الطبقة التي أنشأته وسادت بواسطته طيلة العقود الماضية. وخلافا لما تخيّله كثيرون، تبيّن أن هذه الشريحة الاجتماعية وقواها السياسية، تمتلك جذورا عميقة في تركيبة المجتمع، وأن زحزحتها ليست بالأمر السهل. فهي من جهة تتحصّن خلف العصبيات الطائفية والمذهبية، ومن جهة أخرى تشكّل امتدادا لهيمنة الرأسمالية العالمية والقوى الاستعمارية الراغبة في إدامة وتجديد سيطرتها على السوق اللبنانية، وفي استمرار الوظيفة التي سخّرت لها لبنان كساحة ومرتكز نفوذ، يمكن التحرّك منه واليه في المنطقة، لتأبيد الهيمنة الغربية ولإدارة حروبها ومعاركها في هذا الشرق.
ثانيا: يتبيّن بالتجربة أن لبنان ما يزال تحت هيمنة الغرب وشركاته، وهو يمثّل قاعدة ارتكاز أساسية لنفوذه في هذه المنطقة. وقد كان الوصف التقليدي لدوره في العواصم الغربية بأنه المرتكز لمجابهة القوى المناوئة للغرب في البلاد العربية. فمن لبنان تمّ التصدّي للمدّ الناصري، ومن لبنان جرى التآمر على الثورة الإيرانية، وتمّ استهداف سورية والمقاومة الفلسطينية. وهذا هو سرّ الاهتمام الغربي بالوضع اللبناني.
لكن التحوّل الكبير الذي حصل في بلدنا هو نهوض قوة تحرّر فاعلة، هي المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله، والتي باتت قوة أساسية، صانعة للتوازنات الجديدة في المنطقة. وهي بذلك لغز الاهتمام الغربي والإقليمي بأوضاع لبنان السياسية والاقتصادية مؤخرا. ولبنان المقاوم هو اليوم رافد رئيسي لمحور المقاومة وشريك في معادلات القوة، التي تعترض طريق الهيمنة الغربية وتمنع إحكامها على الشرق.
ثالثا: لا شك أن المعركة المفروضة على لبنان وحلف المقاومة في هذا البلد ليست سهلة لأن أداتها، التي يستخدمها الحلف الاستعماري مركّبة وغير تقليدية. وهذا هو شكل الاحتيال، الذي يمارسه المعسكر المعادي للمقاومة في التعامل مع التوازنات ومعادلات القوة. إضافة الى جميع أساليبه المعروفة والمصنّفة في إطار ما يُدعى بالحرب الناعمة، سواء العقوبات الاقتصادية أو الحصار، وغيرها من الأدوات المعروفة، التي تُطبّق اليوم في السعي لإضعاف حلف المقاومة والتحرّر في الشرق.
المعضلة اللبنانية الكبرى هي هشاشة البنية الاقتصادية وضعف النزعة الوطنية السياسية، رغم تجذّر المقاومة وقوتها. فبكل أسف، لا تتناسب حالة المجتمع الهشّ والمخترق سياسيا وأمنيا واقتصاديا مع جذرية الخيار التحرّري المقاوم. وقد شكلت حالة الانهيار فرصة التقطها الغرب الاستعماري لتحريك القوى العميلة في وجه المقاومة وحلفها. وهذا ما يجعل المعركة ضد القوى الاستعمارية الصهيونية في بعدها الواقعي معركة سياسية لبنانية داهمة. ويبدو بكل وضوح أن هذا التحدّي هو شرط لا غنى عنه لحماية لبنان، وحل الأزمة الاقتصادية، بكل صراحة. فالرهان على إيجاد الحلول عبر الخضوع لمنظومة الهيمنة هو رهان ساقط وفاشل، ويحكم على البلد بالمزيد من الاختناق في قبضة الغرب.
رابعا: إن إحياء الدورة الاقتصادية المنتجة وطنيا، وإقامة علاقات جديدة في المنطقة وخارجها بشروط التكافؤ والندّية والشراكة والأخوة، هي المبادئ التي يجب الاحتكام اليها في بلورة شراكات جديدة، تساعد على تخطّي الكارثة. ولا يمكن إنقاذ البلد من خلال الوصفات التي يضعها الغرب المهيمن، كما لا يمكن إنقاذ البلد بالمزيد من الاستغراق في النموذج الريعي التابع وغير المنتج. وكل الوقائع تقول إن فرص الإسعاف بالإنتاج هي الفرص الوحيدة المجدية، والشراكات الشرقية الجديدة والعربية وحدها تمثّل الرافد المضمون للإسعاف. فلا حلول يمكن أن تأتي بالرضوخ لمزيد من الهيمنة اللصوصية الغربية، ولا حلول أبدا في تجديد النموذج الكسيح المعادي للإنتاج، بعدما وصلنا الى ساعة الحقيقة، التي تحاشاها اللبنانيون طويلا.
إن النموذج الريعي التابع كان محكوما بالانهيار نتيجة طبيعته الريعية التابعة، وأي محاولة لتوسّل سبل الإنقاذ بتأبيد هذا النموذج العائب الذي ينهار، هي إهدار للجهود بدون طائل. ويجب أن يفهم اللبنانيون، من غير أي استثناء، أن الغرب يراهن على تجديد استتباع لبنان وإخضاعه للهيمنة بأسعار بخسة، وبشروط تلبّي النهج اللصوصي الغربي، وحيث تنظر الدول والشركات الغربية الى لبنان على أنه ركام تفليسة، يمكن شراؤها بقروش وإعادة استثمارها ونهبها. وهذا ما يجب أن يكون حاضرا في خلفية تعاملنا مع جميع الدول الغربية الاستعمارية وعروضها الاقتصادية والمالية في هذه الظروف، وحافزا لبلورة خطتنا الاقتصادية واختيار الشركاء على قاعدة احترام استقلالنا وسيادتنا وحماية اقتصادنا الوطني من الهيمنة. واليوم نستطيع في العالم المعاصر أن نختار الشراكات المناسبة، وبالشروط الأفضل. المهم أن نُطلق العنان للتفكير الوطني التحرّري في وضع خطة إعادة البناء خارج التبعية والعبودية.