موازنة 2021: موجب دستوريّ بلا أرقام واقعيّة؟: إيلي الفرزلي
منذ أكثر من شهر كان يُفترض أن يكون مشروع الموازنة في يد المجلس النيابي، لا عالقاً في وزارة المالية. الحجة كانت ترك مهمة تحديد السياسة المالية للحكومة الجديدة. لكن لأن لا حكومة في القريب، فإنه لم يعد أمام «المالية» سوى إنجاز المشروع. الوزير غازي وزني يؤكد أنه لن يتأخر في تحويله إلى مجلس الوزراء. ذلك يفتح الباب أمام نقاش سياسي – دستوري بشأن انعقاد مجلس الوزراء في ظل تصريف الأعمال، وأمام نقاش اقتصادي في جدوى إقرار موازنة لا تستشرف الواقع الاقتصادي والمالي بشكل مدروس، طالما لم يُقَر برنامج مع صندوق النقد ولم يتم التفاوض مع الدائنين
حالة من الموت السريري يعيشها الحكم في لبنان. كل المصائب التي تتوالى على البلد والمواطنين لم تجد فيها السلطة ما يستدعي الاستنفار أو إعلان حالة طوارئ، أقله قانونياً وتشريعياً بهدف السعي إلى الحد من تداعيات الانهيار. اطمئنان السلطة يدعو إلى القلق. وهو ما يفسره مصدر متابع بالثقة من أن الموسى لن تصل إلى ذقن أيّ منهم، بل ستطاول في النهاية الناس فقط، إن كانوا مستهلكين أو مودعين أو موظفين.
التهديد المتواصل بحجب المساعدات الخارجية لم يساهم في حلحلة العقد الحكومية. يقال للمسؤولين بشكل مباشر إن لم تسارعوا إلى تشكيل الحكومة، فلن يساعدكم أحد. لكن اللامبالاة تبدو هي الإجابة الأوضح. السلطة نائمة إلى درجة أن الإصلاحات التي يمكن تهيئتها قبل تشكيل الحكومة، لا تجد طريقها إلى الإقرار. ليس هذا فحسب، حتى الموجبات الدستورية لا تجد طريقها إلى التنفيذ!
الموازنة هي المهمة الأولى لأيّ حكومة. وهي كذلك بالنسبة إلى مجلس النواب، الملزم دستورياً، بتخصيص جلساته في بداية العقد الثاني («یبتدئ یوم الثلاثاء الذي یلي الخامس عشر من شهر تشرین الأول وحتى نهاية العام») للبحث في الموازنة والتصویت علیها «قبل كل عمل آخر».
وإذا كانت السلطة لا تكترث للدستور، فيبدو أن الضغوظ الدولية بدأت تصبّ في إطار الدفع باتجاه إقرار موازنة 2021، في ظل توقعات بأن تطول فترة تصريف الأعمال. وفي هذا السياق، أشار سفير بريطانيا لدى لبنان كريس رامبلينغ، بعد لقائه وزير المالية غازي وزني أمس، إلى أنه «من المهم على حكومة تصريف الأعمال أن تضطلع بمسؤولياتها، مثل تحضير موازنة عام 2021».
بالنتيجة، وبعد مرور أكثر من شهر على الموعد المحدّد دستورياً، لم يتسلّم المجلس النيابي مشروع الموازنة. بحسب مصادر رئاسة الحكومة، فإن وزارة المالية هي التي تتحمل مسؤولية تأخير إنجاز الموازنة. وفيما تؤكد مصادر «المالية» أنها لم تنته فعلاً من إعداد المشروع، إلا أنها تحيل السبب إلى الظروف التي فرضها وباء كورونا، وحتّمت الإقفال مرات عديدة، ما أدى إلى تأخر الوزارات والمؤسسات العامة بإعداد موازناتها، كما ساهم في تأخر «المالية» بدرس هذه الموازنات (يجمع وزير المالية تقديرات النفقات ويقابلها بتقديرات الواردات)، قبل إعداد الموازنة.
تجدر الإشارة إلى أن قانون المحاسبة العمومية ينص على أن يرسل وزير المالية بين 1 و15 نيسان تعميماً إلى الإدارات العامة يتضمن التوجيهات لإعداد موازناتها. بعد ذلك، تحضّر الإدارة العامة أو المؤسسة العامة موازنتها بين 15 نيسان و31 أيار. عندها تقوم مديرية الموازنة ومراقبة النفقات في «المالية» بدرس الموازنات التي وردتها بين 1 حزيران و31 تموز، لتعمل الوزارة بعدها، بين 1 آب و31 آب، على توحيد الموازنات وتأمين توازنها وتحضير مشروع الموازنة العامة، وإحالته إلى مجلس الوزراء، الذي يفترض أن يدرس المشروع ويعدّله ويصدّقه ويحيله إلى مجلس النواب بين 1 أيلول و30 أيلول.
هذه الآلية القانونية ضُربت كلها. أولاً من الوزارات التي سلّم بعضها موازنته في تموز، وثانياً في وزارة المالية التي لم تعدّ المشروع بعد ولم تحوّله إلى مجلس الوزراء. وبالرغم من أن وزني يؤكد أن الوزارة تعكف على إعداد الموازنة، وأنها ستنجزها خلال أسبوعين بالحد الأقصى، إلا أنه يشير إلى أن التأخير يعود أساساً إلى استقالة الحكومة في 10 آب. حينها كان الاتجاه إلى ترك المهمة للحكومة الجديدة، لتقرر برنامجها والسياسة المالية التي تريد اعتمادها. لكن أما وأن الحكومة قد تأخرت، فقد عمدت الوزارة إلى إنجاز الموازنة، علماً أن أي حكومة جديدة قادرة على سحب المشروع المعد من الحكومة السابقة، كما يمكنها تعديله.
بالرغم من أن ترك الأمر للحكومة المقبلة كان أمراً يجد تبريراً سياسياً له في الفترة الأولى، خاصة أن وزارة المالية ملزمة بإرفاق المشروع بفذلكة الموازنة، التي تتضمن: بياناً عن الحالة الاقتصادية والمالية في البلاد، بياناً عن السياسة المالية التي تنوي الحكومة اتباعها في السنة التالية، والمشاريع والإصلاحات التي تنوي تحقيقها في شتى الميادين… وهي أمور يفترض أن تكون في صلب المهام التي تتولاها الحكومة الجديدة؛ إلا أن هذا يعني، بحسب مصادر قانونية، تخطي المهل الدستورية لإعداد الموازنة وحتى إقرارها، وهو ما يحتم تولي الحكومة الحالية المسؤولية.
لكن مصادر معارضة لإقرار الموازنة في الحكومة الحالية تعتبر أن ما هو أهم من الموجب الدستوري حالياً هو الموجب الاقتصادي. وهي إذ تشير إلى أن تخطي المهل قد ينتج عنه بالحد الأقصى الصرف على القاعدة الاثني عشرية، فإن الموجب الاقتصادي يشير إلى أن أي موازنة ستُعدّ قبل الاتفاق مع صندوق النقد على برنامج مساعدات، وقبل الاتفاق مع الدائنين على آلية للتعامل مع هذا الدين، ستكون موازنة شكلية لا تعبّر عن الواقع. وعلى سبيل المثال، يقول المصدر أي أرقام واقعية ستنتج عن تصفير بند خدمة الدين؟ ليخلص إلى أن إقرار الموازنة ليس فناً من أجل الفن بل يجب أن يكون مبنياً على وقائع اقتصادية واضحة وهو ما ليس متوفراً في الوقت الحالي.
بالنتيجة، اقتنعت وزارة المالية أنه لا بد من إعداد الموازنة والتخلي عن فكرة ترك المهمة للحكومة المقبلة، فإن التحدي سيكون في إقرار الموازنة من قبل مجلس النواب قبل نهاية السنة، أو في الحد الأقصى قبل نهاية شهر كانون الثاني المقبل. لكن دون ذلك عقبة أساسية تتمثل في اجتماع الحكومة لإقرار الموازنة.
لا اعتراضات جدية على فكرة إقرار حكومة مستقيلة للموازنة
حتى الآن لا اعتراضات جدية على فكرة إقرار حكومة مستقيلة للموازنة، انطلاقاً من أن هذا الموجب الدستوري يقع حكماً في خانة الضرورة، التي تجيز انعقاد مجلس الوزراء للبتّ به.
ثمة سابقة واضحة في هذا المجال. في عام 1969، وبعد أن أعرب رئيس الحكومة رشيد كرامي في مجلس النواب عن نيته في الاستقالة اثر اصطدامات دامية بين القوى المسلحة وأنصار الفلسطينيين، دخل البلد في أزمة وزارية طويلة دامت حوالى ستة أشهر، حان خلالها الموعد الدستوري لتقديم الموازنة إلى مجلس النواب. حينها انعقد مجلس الوزراء في الوقت الذي كانت الحكومة فيه بحكم المستقيلة لإقرار الموازنة وإرسالها الى مجلس النواب ضمن المهلة الدستورية. وهو ما حصل فعلاً.
إذا كان انعقاد مجلس الوزراء لإقرار الموازنة خاضعاً لنقاش دستوري، فإن لا نقاش في إمكانية إقرار المجلس النيابي لقانون الموازنة في ظل حكومة تصريف أعمال. وهو ما سبق أن حصل في موازنة 2020، حيث مثّل الرئيس حسان دياب الحكومة في المجلس النيابي قبل نيل حكومته الثقة.
مع التسليم بأن إقرار الموازنة يشكل موجباً دستورياً مفروضاً على السلطة التنفيذية، بصرف النظر عما إذا كانت مكتملة الصلاحيات أم لا، فإن خبراء دستوريين عديدين يذهبون إلى التأكيد على وجوب انعقاد مجلس الوزراء بشكل روتيني في الأزمات، حتى لو كانت الحكومة مستقيلة.
الوزير السابق بهيج طبارة واحد من أصحاب هذا الرأي. في الدراسة التي أعدّها عن فترة تصريف الأعمال في الأزمات، يقول إن الأزمة المالية الخطيرة التي يمر بها لبنان، لا تبرر فقط عقد جلسة لحكومة تصريف الأعمال، بل تستدعي أن يكون مجلس الوزراء في حالة انعقاد دائم لمتابعة المستجدات ومناقشتها واتخاذ ما يلزم من تدابير سريعة لمعالجتها. وهو يجزم أن ذلك لا يُشكّل تجاوزاً لتصريف الأعمال، ولو بالمعنى الضيّق.
(الاخبار)