طريق الخروج من الانهيار
غالب قنديل
حتى الآن ينحصر التداول بوصفات متعددة لاستثمار حالة الانهيار من زاوية بعض الجهات السياسية وأصحاب المصالح المرتبطة بمجموعات ليست منزّهة عن محاولة استغلال الكارثة الزاحفة.
أولا: إن ما يحتاجه لبنان، في مواجهة ما حلّ به، هو قيادات تملك شجاعة المصارحة والمصداقية في مخاطبة الناس لتعبئة جهودهم وقواهم في عملية صعبة ومكلفة لإعادة البناء الوطني اقتصاديا وماليا، وكل تفكير أو خطاب لا يُبنى على هذه القاعدة هو إضاعة للوقت، على طريقة بعض الجهات التي تتفجّع على الانهيار أو تتبادل الاتهام بالمسؤولية بين بعضها البعض، أو أولئك الذين يتحايلون على الكارثة بتقنين وضبط المعلومات والأخبار المتداولة إعلاميا عن مداها ونتائجها وانعكاساتها.
ثانيا: إن ما يجتازه لبنان اليوم اقتصاديا وماليا ليس أزمة عابرة، بل هو كارثة وطنية بكل معنى الكلمة، ناتجة عن الخراب والدمار وتراكم الديون والتشوّهات البنيوية المتأصلة، التي تربّعت عليها شرائح مالية واقتصادية أشبه بمصاصي الدماء، الذين هم الجهة الوحيدة التي راكمت الأرباح على ركام الخراب الكبير الذي حلّ بالاقتصاد اللبناني. ومن المفضوح جدا، لأي خبير أو عارف، أن ما يجري هو تقطيع وقت الى أن يقع انهيار غير مسبوق، يتمّ تأجيله تباعا بجرعات المسكنات المالية والنقدية، التي لا تسمن ولا تغني.
يعرف الخبراء العلميون، وإن أنكروا، أن واقع لبنان الحالي هو انهيار الى قعر خطير اقتصاديا وماليا، وله تبعات اجتماعية لا تُحدّ ولا تُحصى، والإنقاذ يتطلّب عملا ثوريا، يقلب منظومة القيادة والتخطيط في الاقتصاد الوطني لصالح منهجية جديدة، تنهي الريعية، وتحيي قطاعات الإنتاج، وتنطلق من مبدأ إسقاط جميع مرتكزات الانتفاخ الكاذب في القطاعات المالية والخدماتية، واختيار الصفر الاقتصادي الواقعي والمناسب اجتماعيا، لتُبنى عليه خطة نهوض حقيقية، من خارج الأورام التي ترتبط بحلقة الريع والمضاربات والخدمات الهامشية.
ثالثا: إن على اللبنانيين أن ينتقلوا بعد الانهيار الذي وقع، والمرشّح للتمادي، الى تفكير واقعي والى نمط حياة جديد وجدي، يقوم على العقل الإنتاجي في جميع القطاعات، بعيدا عن التقاليد التي اكتسبوها في عقود من المقامرة والربا، وبعيدا عن أي كدح حقيقي في مجالات الإنتاج التي دمّروها بأيدهم. وهنا لا نميّز في المسؤولية، مبدئيا، بين الزعماء والجمهور من جميع الطبقات. فقد كان الكلّ شريكا في لعبة الربا. وكانوا يوزعون الابتسامات البلهاء عن رخاء لبنان الكاذب، وعن الورم المالي الذي سمّوه ازدهارا. ولا شك أن التوزيع العادل للمسؤوليات هو ضرورة لازمة لأي حساب سياسي، لكنّ غفلة الشعب وانسياقه في العصبيات خلف زعاماته وأحزابه، كان الركيزة التي قامت عليها تلك المنظومة السياسية والمالية.
إن التصحيح المالي والاقتصادي وشقّ الطريق لمنهجية جديدة في إدارة الشأن العام، يجب أن يشملا كلّ شاردة وواردة في لبنان، بدءً من إعادة التأهيل الثقافي للجمهور العريض الذي أسكرته الريوع الوارمة، التي تحوّل معها الناس الى مضاربين، واستُنزفت الثروة الوطنية الى أن حلّ الخراب، واكتشف الجالسون على الورم أن جميع الفقّاعات قد اختفت، وحلّ مكانها ويلٌ في حُفر انهيار وإفلاس.
رابعا: إن إعادة تأهيل الشعب اللبناني بجميع قطاعاته وفئاته الشعبية، ليسترد مهاراته المنتجة، وليستعيد نظرته الواقعية وروح الكدح، بعيدا عن استسهال الألاعيب الريعية، التي غزت عقول اللبنايين بنزعة المضاربة وسهولة الأرباح واستعجال كنز الثروات الضخمة.
يجب أن يفهم اللبنانيون أن ذلك الزمن قد ولّى، وأنهم لم يعودوا قارين على “تمريك” الأرباح في حسابات المضاربة وهم نيام، وأن عليهم إعادة شحن عقولهم وعضلاتهم معا في الفروع المنتجة من اقتصادهم الوطني، ليستحقوا الربح الحلال بعرق الجبين وبالكدح والجهد، الذي يمكن لهم، بفضل التأهيل العلمي والخبرات المتراكمة، أن يحققوا به عائدات ضخمة إذا بلوروا إرادة وطنية حازمة، تعيد النظر بجميع القوانين والأنظمة السارية في لبنان، لحماية الإنتاج، ولتعزيز قدراته التنافسية، وإن حكّموا العلم والمنطق في تعيين الفروع الاقتصادية المناسبة لبلدهم ولأسواقهم الطبيعية في الجوار العربي القريب. وهذا وحده يمثّل طريق النهوض الحقيقي وإعادة بناء دور لبنان ووظيفة قطاعاته الاقتصادية في المحيط العربي والشرقي وفي العالم. ونقطة الانطلاق في كل ذلك، هي التحرّر من جميع القيود والارتهانات، التي فرضتها الهيمنة الغربية على النظام اللبناني تاريخيا لصالح التوجّه شرقا دون إدارة الظهر لأي شريك محتمل في الشرق أو الغرب، وصياغة رؤية وطنية حرة ومستقلة لوظيفة لبنان الاقتصادية في محيطه، ووضع خطة لإعادة البناء الوطني على هذه القاعدة.
ليست معجزة مستحيلة، لكنها تستدعي إرادة صلبة وحرة لا ترتهن الى الهيمنة الأجنبية، ورؤية علمية في صياغة برنامج إنقاذي، تُعبّأ على أساسه جميع الطاقات، لتُحشد في مسيرة نهوض، تنقلنا الى الوضع الجديد، وتؤسس لمستقبل أفضل.