ترامب خسر في أميركا وحاول أن يكسب في لبنان…: د. عصام نعمان*
معظم اللبنانيين تمنّوا بحرارة أن يخسر دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية. قبل إعلان خسارته رسمياً فاجأ الرئيس الأميركي الغريب الأطوار اللبنانيين، مسؤولين ومواطنين، بقرار صادر عن وزير خزانته ستيفن منوشين أدرج فيه رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير السابق النائب جبران باسيل، صهر رئيس الجمهورية ميشال عون، على لائحة العقوبات بموجب قانون ماغنتسكي بتهمة دعم الفساد لكونه «مسؤولاً حكومياً حالياً أو حليفاً، أو شخصاً متواطئاً أو متورّطاً مباشرةً أو مداورةً في الفساد، بما في ذلك اختلاس أموال الدولة، ومصادرة الأصول الخاصة لتحقيق مكاسب شخصية، أو الفساد المتعلق بالعقود الحكومية أو استخراج الموارد الطبيعية أو الرشوة».
ما حيثيات القرار؟
لم يتضمّن القرار إلاّ إشارات عمومية تتعلق بالفساد وشراء النفوذ. لكن وزير الخزانة منوشين تبرّع بتبريرٍ لوسائل الإعلام: «إنّ الفساد الممنهج في النظام السياسي اللبناني الذي يمثله باسيل ساهم في تقويض أسس قيام حكومة فاعلة وقادرة على خدمة الشعب اللبناني».
منوشين الحريص على «خدمة الشعب اللبناني» حمّل، إذاَ، «النظام السياسي اللبناني الذي يمثله باسيل مسؤولية تقويض أسس حكومة جديدة قادرة على خدمة هذا الشعب»!
صحيفة «النهار» لم تكتفِ بما قاله منوشين. نسبت إلى مسؤول رفيع في إدارة ترامب قوله «إنّ باسيل وضع مصالحه الخاصة فوق مصالح الشعب اللبناني (…) ودعم الحزب (حزب الله) الذي يحقق مصالح إيران في لبنان».
حزب الله، إذاً، هو دافع واشنطن لمعاقبة باسيل ليكون عبرة لغيره من المتعاونين معه. لكن باسيل ليس الوحيد الذي استخدمته إدارة ترامب ذريعة لردع غيره. ألم تفرض عقوبات، من دون أدلّة ومستندات، على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فينيانوس وبالذريعة نفسها وهي دعمهما، خلال وجودهما في السلطة، حزب الله؟ فهل ارتدَع الوزيران المذكوران؟ وهل كانا عبرةً لغيرهما، لا سيما للوزير السابق باسيل؟
خلوّ القرار العقابي من أدلة ومستندات دفعت الرئيس عون الى مطالبة إدارة ترامب بإبرازها لتمكين القضاء اللبناني من اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة.
باسيل نفى الاتهامات المزعومة وكشف عن ضغوط وإغراءات أميركية لحمله على التخلي عن تحالف حزبه مع حزب الله، وانه رفضها بلا تردّد، فكان أن عوقب بإصدار القرار السياسي الهزيل بإيعاز من «إسرائيل».
في ضوء هذه الواقعات والتطوّرات، ماذا تراها تكون مرامي واشنطن الحقيقية من وراء قرار معاقبة باسيل؟
لعلّ ما ترمي إليه أولاً التحوّط لما يمكن ان تكون عليه مواقف لبنان حيال خمس قضايا رئيسة تتصل بتركيبة نظامه السياسي ومستقبل علاقته بأميركا: الانتخابات النيابية المقبلة في شهر حزيران/ يونيو 2022، وانتخاب رئيس جمهورية جديد قبل انتهاء ولاية الرئيس عون أواخرَ شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2022، وترسيم حدود لبنان البحرية وتسوية المنازعة بشأنها مع «إسرائيل»؛ وسلاح المقاومة وخطره على أمن الكيان الصهيوني؛ وموقف لبنان من سياسة أميركا الرامية إلى احتواء إيران وحلفائها المعادين لها ولـِ «إسرائيل»، وذلك على النحو الآتي:
أولاً، الانتخابات النيابية: كانت إدارة ترامب قد أيّدت ضمناً دعوة بعض هيئات الانتفاضة الشعبية إلى إجراء انتخابات نيابية مبكرة وفق قانون الانتخابات الحالي، ظنّاً منها انّ إجراءها قبل موعدها في سنة 2020 سيؤدّي الى فوز القوى السياسية المناهضة للتيار الوطني الحر (العونيون) وحلفائه. بصرف النظر عن مدى صحة هذا الاحتمال، فإنّ إجراء انتخابات مبكرة لم يعد وارداً بعد تشرذم الهيئات المشاركة بالانتفاضة من جهة وتضامن القوى السياسية المناهضة لهذا المطلب داخل مجلس النواب وخارجه من جهة أخرى. وإذ يبدو متعذراً التوافق على قانون للانتخابات بديل من القانون الحالي قبل سنة 2022، فإنّ واشنطن مضطرة الى التوفيق بين القوى الموالية لها داخل البرلمان وخارجه من أجل مواجهة قوى الأكثرية النيابية المتمثلة بالتيار العوني وثنائية حزب الله وحركة أمل وحلفائهما قبل الانتخابات المقبلة وفي خلالها.
ثانياً، انتخاب رئيس جديد للجمهورية: تخشى واشنطن من ان يتوصل التيار العوني وثنائية حزب الله وأمل وحلفاؤهما إلى هندسة جبهة متوافقة على خوض الانتخابات النيابية المقبلة والحصول على أكثرية قادرة على انتخاب رئيس جديد للجمهورية يكون، كميشال عون، متوافقاً معهم ضدّ سياسة أميركا في المنطقة عموماً وضدّ «إسرائيل» خصوصاً. كما تخشى واشنطن أن يبادر الرئيس عون، بالتفاهم مع حلفائه، الى الإستقالة قبل حزيران/ يونيو 2022 ما يؤدّي الى قيام مجلس النواب الحالي، حيث لخصوم أميركا أكثرية وازنة، بانتخاب رئيس جديد سيكون بطبيعة الحال غير موالٍ لها. في هذا السياق يمكن تفسير قيام إدارة ترامب، تحوّطاً، بإصدار القرار العقابي بحق جبران باسيل ظنّاً منها أنّ ذلك يضعه خارج السباق الرئاسي ويتيح لها الفرصة اللازمة لمساومة الآخرين للتوافق معهم على مرشح آخر للرئاسة لا يكون مؤيداً لحزب الله.
ثالثاً، ترسيم حدود لبنان البحرية: لاحظت واشنطن بحنق انّ الوفد اللبناني في المفاوضات الدائرة برعاية الأمم المتحدة لترسيم حدود لبنان البحرية قد طرح مقاربةً للنزاع العالق مع «إسرائيل» تجاوزت موقف لبنان التقليدي المطالب بكامل المنطقة المتنازع عليها والبالغة مساحتها نحو 860 كيلومتراً مربعاً الى المطالبة بمساحة إضافية تصل الى نحو 1500 كيلومتر مربع الأمر الذي أثار حنق واشنطن وتل أبيب معاً. ولأنّ الوفد اللبناني في المفاوضات يعمل بإشراف الرئيس عون وبحسب تعليماته، فقد أصبحت واشنطن مضطرة، كرمى لـِ «إسرائيل»، الى محاولة المجيء برئيس للجمهورية أقلّ تصلباً من الرئيس الحالي إزاء مسألة ترسيم الحدود.
رابعاً، سلاح المقاومة: تشاطر واشنطن «إسرائيل» وبعض قوى اليمين اللبناني المعادية لحزب الله تخوّفها من خطر سلاح المقاومة، لا سيما صواريخها الدقيقة، على أمن «إسرائيل» وموازين القوى الداخلية في لبنان وإمكانية تطوّرها لمصلحة أعداء أميركا و»إسرائيل». لذا ستثابر واشنطن على مناهضة حزب الله بكلّ الوسائل المتاحة وعلى دعم خصومه داخل البلاد، وستصعّد دعمها العسكري والسياسي والمادي لخصوم حزب الله، وستحرص على استبعاده عن ايّ حكومة يجري تشكيلها سواء برئاسة سعد الحريري أو سواه.
خامساً، سياسة أميركا المناهضة لإيران وحلفائها: تعتمد الولايات المتحدة، مذّ تسلّم دونالد ترامب مقاليد الرئاسة سنة 2016، سياسةً مناهضة لإيران وحلفائها (سورية وتنظيمات المقاومة في لبنان وفلسطين) قوامها الحصار الاقتصادي والعقوبات ودعم تنظيمات الإرهاب المعادية. وعليه، تحرص واشنطن على وجود منظومة حاكمة في لبنان تؤيد سياستها الإقليمية أو لا تعارضها على الأقلّ، وترضخ لسياسة منع السلاح المتطوّر عن الجيش اللبناني، ومنع إقامة جسر لوجيستي لتموين حزب الله يمتدّ من إيران الى لبنان عبر سورية والعراق. هذه السياسة المتكاملة في عدائها لإيران وتنظيمات المقاومة تتطلّب وجود حكومة لبنانية متجاوبة مع سياستها الإقليمية أو غير مناهضة لها.
في ضوء هذه التحديات والمتطلّبات ترسم الولايات المتحدة، سواء في ظلّ إدارة دونالد ترامب الذاوية أو إدارة جو بايدن البازغة، سياستها وأغراضها وسبل تنفيذها. لذا لن تكتفي بمحاولة تحقيق كسب هزيل بإزاحة جبران باسيل من حلبة الصراع على رئاسة الجمهورية، بل ستسعى، بلا كلل، لعدم تمكين خصومها من توليف مرشحٍ بديل يخوض بنجاح غمار الصراع على رئاسة الجمهورية سنة 2022، في حين هي عزّزت من حيث لم تشأ حظوظ جبران باسيل بمعاقبته أملاً باغتياله سياسياً.
(البناء)