على هامش مناظرة بايدن وترامب: ناصر قنديل
– بمعزل عن النقاش الدائر في بعض الأوساط السياسيّة والإعلاميّة حول لعبة الترجيح أو المفاضلة بين المرشحين للرئاسة الأميركية، فتحت المناظرة الأخيرة بين المرشحين الرئيس الحالي دونالد ترامب ونائب الرئيس السابق جو بايدن، باب نقاش وتقييم لبعض الظواهر التي قد لا تكون بعيدة عن التأثير على السياق الانتخابي ومضمونه السياسيّ، لكنها ليست هنا تحت هذا العنوان، فمن تابع المناظرة وتسنّى له سابقاً متابعة مناظرات موازية في عدد من الانتخابات السابقة يستطيع تسجيل فوارق جوهرية عن أيام العز والقوة الأميركيتين، تؤشر الى ما وصلته الحالة الأميركية من تدهور في المكانة والقوة والمهابة، فخلال المناظرة احتلّ مساحة بارزة تبادل المرشحين لتهم التبعية للخارج وتلقي أموال من هذا الخارج أو الارتباط بمصالح خاصة معه، أو استدراج تدخله لصالح المرشح في الانتخابات. وهذا ما قاله ترامب عن بايدن وما قاله بايدن عن ترامب، وهي اتهامات أقل ما يمكن قوله عنها، أنها متوقعة في بلد من بلدان العالم الثالث حيث تصنع أميركا لهم رؤساءهم، لكنها مفاجأة عندما يكون الحديث عن أن هناك مَن يصنع لأميركا رؤساءها.
– الإشارة الثانية هي ما كشفته المناظرة بين ترامب وبايدن، من عمق حال الرهاب الأميركية تجاه روسيا والصين وإيران، سواء كان الظاهر من هذا الرهاب لدى المرشحين صادقاً أو مفتعلاً، فإن كان مفتعلاً فهو علامة أخطر من كونه صادقاً لأنه يعني رهان المرشحين على اعتبار الرهاب موجوداً لدى المجتمع ويمكن استثماره إنتخابياً بتوجيه تهمة التبعية للخصم لهذا الخارج. وهذا بحدّ ذاته يؤشر إلى تراجع نظرة أميركا لنفسها ونظرة الأميركيين لأنفسهم، باعتبار الخشية من هذا الخارج، سواء ببعدها العسكري والاقتصادي، أو لجهة الخشية من تدخّلاتها في الشؤون الداخليّة الأميركية وسيطرتها على الاستحقاق الانتخابي والتلاعب بالمرشحين، نوع من الانهزام الداخلي والانكسار النفسيّ الذي يعني قناعة داخلية لدى القادة والنخب والجمهور بأن بلدهم لم يعُد صانع السياسات الأول في العالم، ولا صانع سياسات الدول الأخرى، فلم تعُد الوطنيّة الأميركيّة ذات طابع هجومي وإيجابي قائمة على التاريخ الاستعماري المستند للتباهي بالمكانة، بل صارت وطنية دفاعية سلبية هاجسها الخشية من هيمنة الآخرين وسطوتهم وتدخلاتهم ومشاريع نموّهم الاقتصادي والعسكري.
– في المناظرة يسهل اكتشاف أن مشروع ترامب وبايدن نحو الخارج يبدو متقارباً لجهة التسليم بفقدان القدرة على الهجوم، لكن يبدو الأمر مختلفاً داخلياً حيث فقد مشروع ترامب قدرته الهجومية مع الانتكاسة التي رافقت تفشي كورونا وما عاشه الاقتصاد من ركود وتراجع، فصار الصراع على الهوية الاجتماعية للدولة بين خط فوضوي داخلي يمثله ترامب يتحدّث عن وعود وردية بلا برنامج، مقابل برنامج لإعادة دولة الرعاية التي يتبناها الديمقراطيون والقائمة على رفع نسب الإنفاق العام في الصحة والتربية والخدمات لتعزيز الطبقة الوسطى وحماية المهمّشين، ومن وحي البعد الداخلي ينفتح الصراع أيضاً بين خط فوضويّ في السياسة الخارجية يمكن تلخيصه بالخروج من المجتمع الدولي في اتفاق المناخ والتفاهمات حول البيئة والصحة ومنها الاتفاق النوويّ الإيراني من هذا المنظور المفاهيمي للانتظام في قلب العلاقات الدوليّة بعدما استنفدت هوامش التخبّط التي قادها ترامب بالخروج من الاتفاقات والتفاهمات والمواثيق.
– على الصعيد الاقتصادي بدا واضحاً تمسّك ترامب بالدفاع المتوحّش عن همجية كارتلات النفط والعقارات بنسختهما الحالية، مقابل التزام بايدن بالاستثمار في نهضة عمرانية تعزّز قطاعاً عقارياً حديثاً متصالحاً مع البيئة، وتفتح طريق الطاقة البديلة، خصوصاً الطاقة الشمسيّة وطاقة الرياح وما تفتحه من فرص العمل وتوفره من مصالحة مع البيئة وتضمنه من تراجع في الكلفة، وهذا لا يعني على الإطلاق ترجيحاً استباقياً لفوز بايدن، بقدر ما يعني أن أميركا أمام خيارين يأخدانها نحو الصراع الشرس المستمرّ مهما كانت نتيجة الانتخابات. فالفوضى والتوحّش لا يصنعان استقراراً في حال الفوز، وهزيمة القوى المستفيدة من التوحّش لا تتحقق فقط في صناديق الاقتراع فقط، فكارتلات النفط وسماسرة العقارات البيض لن يلقوا السلاح بسهولة ولو أخذوا أميركا الى مشروع حرب أهلية في حال الفشل الانتخابي، والمهمّشون الملوّنون وفقراء الأرياف لن يقبلوا المجاعة ومثلهم الطبقة الوسطى المتهالكة لن ترتضي الاستسلام للعنصرية والإفقار وفقدان الخدمات والرعاية، ولو اقتضى ذلك منهم النزول الى الشوارع وربما التسلح أيضاً.