أزمة لبنان والفرص المتاحة شرقا
غالب قنديل
يتخبّط اللبنانيون في أزمة اقتصادية ومالية غير عادية. ويغيب عن النقاشات والطروحات أي مشروع جدي للخلاص الوطني. ويستغرق البلد في جدالات سياسية متعدّدة المسارب والمسارات والمواضيع، يقع خارجها همّ البحث في البرنامج المطلوب لمواجهة أزمة خطيرة وغير عادية.
أولا: الأزمة الراهنة في لبنان هي أزمة نضوب موارد الثروة وخراب الاقتصاد الوطني، ولا تعود الى نزاع عادي وتقليدي على توزيع الثروة، كالذي تشهده الصراعات الاجتماعية والأزمات المشابهة في دول العالم وبلدان المنطقة خصوصا.
أزمة النضوب تستدعي برنامجا لإعادة البناء الوطني محوره إحياء موارد الثروة الحقيقية على أسس جديدة. وهذا يرتبط في بلد كلبنان بإنجاز خطة لإعادة البناء الوطني، تعتمد على الإنتاج، وتغادر العقلية الخدماتية الطفيلية، التي ميّزت العقل الاقتصادي اللبناني، ورعت النموذج البائس الذي ينهار اليوم، وقد استُنفذت طرق إحيائه وإبقائه باستنزاف مدّخرات اللبنانيين وتصفير خزائنهم المثقلة بالديون.
ثانيا: إن سقوط النموذج اللبناني بات مبرما وتاريخيا، وكل محاولات الترميم لا تعدو كونها مبادرات وخطوات هامشية وبرانيّة عاجزة عن مدّ عمر النظام القائم على ضرب قطاعات الإنتاج وتهميشها لصالح نموذج خاص من السمسرة والحركة الاقتصادية الطفيلية على أنقاض الصناعة والزراعة وكلّ فرع اقتصادي منتج للثروة الحقيقية، كان كبيرا أم صغيرا.
لقد غرف اللبنانيون من الأموال خلال العقود الماضية، وسكِروا في لعبة لحس المبرد خلال العقدين الأخيرين، ولم يدركوا أنهم كانوا يستمتعون بنكهة دمائهم ودماء أجيالهم، ويدمّرون المدّخرات المحتملة لتكوين قاعدة إنتاجية صلبة تؤمّن الاستقرار المديد.
ثالثا: إن نهوض لبنان مرتبط بإسقاط الرهانات على تجديد النموذج التابع، المبني على السمسرة الداخلية والخارجية، والخاضع لهيمنة الغرب الاقتصادية والسياسية. ولا خلاص للبنان من غير الانتقال الى إقامة نموذج جديد في البناء الاقتصادي، يقوم على إحياء موارد الثروة الحقيقية، وتعزيز قطاعات الإنتاج على أوسع نطاق ممكن، والتركيز على المزايا التي يمكن استثمارها والبناء عليها. وبالتالي، فلبنان موقوف النهوض على خطة عملية تشكّل قاعدة لتعبئة جميع الجهود والطاقات في سبيل الإنقاذ. وهذا الأمر، وللأسف يبدو مغيّبا كليا عن الاهتمام السياسي والإعلامي.
إن ما نشهده اليوم ليس أزمة عادية تحلّها بعض الأفكار السطحية والمعالجات العابرة، التي تغرف من معين النموذج الهامشي التابع، الذي تصدّع وترنّح وهوى من زمن بعيد.
رابعا: إن أي رؤية اقتصادية جديدة لنهوض لبنان وإعادة بنائه، يجب أن تقوم على دراسة علمية، تقود الى صياغة مفهوم واضح عن الدور الاقتصادي الإقليمي، الذي يمثّل قاعدة إعادة البناء الوطني. ولا يمكن في العالم المعاصر لأي دولة أن تضع خطة بنائها الوطني دون اعتبار ما يمكن أن تحققه من مصالح وشراكات في محيطها القومي والإقليمي. وشاء بعض اللبنانيين أم أبوا، إن لبنان الذي هو في قلب الشرق العربي، محكوم بمنطق التكامل مع جواره القومي بدءً من الشقيقة سورية. وما بين البلدين من مصالح وتشابكات يمثّل علميا أرضية مشتركة لبناء اقتصادي متكامل. كما أن المصالح الاستراتيجية المشتركة بين لبنان وسورية والمرتبطة بالصراع مع العدو الصهيوني ومقاومة الهيمنة الأميركية، تؤسس لفكرة التكتّل الإقليمي، الذي يمكن للبلدين التأسيس له بصورة مشتركة، فيها تحقيقُ مقوّمات نهوض صناعي وزراعي وتكنولوجي، وفيها فرصٌ للإفادة من شراكات جديدة لبنانية – سورية في مجالات واعدة كالطاقة والتكنولوجيا الحديثة.
خامسا: تمثّل إيران قوة شقيقة وحليفة صاعدة وقوية على الصعيد الاقتصادي، يمكن للبنانيين أن يعتمدوا عليها، وأن يتشاركوا معها في مجالات كثيرة. وهذا التكتّل الثلاثي اللبناني – السوري – الإيراني يؤمّن الكثير من الفرص الواعدة للكفاءات اللبنانية في المجال التقني وفي مختلف الفروع الاقتصادية الحيوية. وهي فرصة هائلة لأي خطة للتنمية يتبنّاها لبنان، بالنظر الى حجم السوق الإيرانية وحاجاتها من السلع، والى المزايا التي يستطيع تحقيقها أي استثمار لبناني – سوري – إيراني مشترك في مختلف فروع التكنولوجيا والصناعات المتقدمة بتكامل الكفاءات والإمكانات بين البلدان الثلاثة، ناهيك عن فرص الشراكات الممكنة التي يستطيع هذا المثلث الاعتماد عليها مع دول كالصين وروسيا وغيرها.
إن أي رؤية لبنانية لإعادة البناء الوطني، لا بدّ وأن تنطلق من هذه القاعدة، وبالتالي هي ملزمة بأن تقدّم مباشرة خطتها وتصوّرها حول الشراكات اللبنانية – السورية – الإيرانية الممكن الاعتماد عليها في نهوض لبنان من جديد، بعد هذا الخراب المرشّح للتفاقم.