ما بعد إفلاس المصارف التجارية: كيف تنطلق عجلة الاقتصاد؟: ليا القزي
تَركّز شغل المصارف التجارية في لبنان على جني الأرباح الكبيرة جرّاء الفوائد التي كانت تحصل عليها من مصرف لبنان وسندات الدين. وخصّصت النسبة الأكبر من القروض التي تمنحها لسوق العقارات. خطة عمل بأبعاد «استراتيجية» عبّدت الطريق أمام الانهيار الكبير الذي يشتمل على إفلاس القطاع المصرفي. فهل إعادة «إصلاح» هذا القطاع و«رسملته» و«هيكلته» كافية لإطلاق عجلة الاقتصاد؟ وما هو الدور الذي يُمكن أن يقوم به بعد «إصلاحه»؟ الطروحات عديدة، يبقى مُرتكزها وجود دولة سيّدة قادرة على تحويل المال إلى عامل تنمية
… وماذا لو تمّت تصفية المصارف المُفلسة، وإعادة هيكلة بعضها الآخر، وعاد القطاع المصرفي إلى «العمل الطبيعي»؟ كيف سيُشكّل «عامل إضافة» ودفعٍ للاقتصاد اللبناني؟ عام 2011، كتب الاقتصادي الأميركي، جوزف ستيجلز مقالاً يشرح فيه عن دور «القطاع المصرفي في خدمة المُجتمع وليس العكس»، وحدّد فيه أنّ «المطلوب هو إنهاء الأعمال الخطيرة التي تقوم بها المصارف، والمُتمثلة بالمضاربة، وعودتها إلى عمليات الإقراض المملّة». مقاله يومها كان تعليقاً على أزمة الـ2008 المالية، و«الفقاعة العقارية» التي أدّت إلى تعميق الأزمة، مُنتقداً «عدم تطبيق إصلاحات مالية، بل ضخّ الأموال في المصارف من دون قيد أو شرط ورؤية لأيّ نظام مصرفي نُريد ونحتاج». المبدأ والحلّ نفسه يُمكن استخدامه في الحالة اللبنانية.
«قبل الحديث عن إصلاح القطاع، يجب أولاً أن يقتنع المودعون أنّ أموالهم التي أودعوها لدى المصارف لن تعود إليهم. اختفت (اقرأ بدّدتها إدارات المصارف وسياسة مصرف لبنان وغياب الرقابة والتآمر السياسي). ثانياً، على أصحاب المصارف والمُساهمين والموظفين في القطاع تقبّل أنّهم أمام 5 سنوات، أقلّه، صعبة وخالية من أيّ ربحية. هذا النموذج انتهى ولن يعود إلى سابق عهده». الكلام للمُدير العام لأحد المصارف التجارية. والنموذج الذي يتحدّث عنه، بحسب النائب السابق لرئيس هيئة الأسواق المالية فراس صفي الدين، هو «اعتماد الاقتصاد على المصارف كمصدر وحيد للتمويل، وبنسبة تفوق إنتاجيتها». أمور عديدة تبدّلت، وقبل كلّ شيء فقدت المصارف اللبنانية إحدى «قيمها» الأساسية: الثقة. يقول رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية، وعضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي، غسّان ديبة إنّ «الفترة بين هيكلة القطاع المصرفي وإعادة تفعيل عمله ستكون طويلة نسبياً، ولذلك علاقة أيضاً بأنّ وضع الاقتصاد صعب ولن يكون هناك طلب كبير على القروض الشخصية أو الاستثمارية». ولكن، بعد إطلاق عجلة الاقتصاد «سيعود الطلب على المصارف بسبب عودة الناس لشراء المنازل وطلب القروض التجارية»، يقول أحد المصرفيين.
في مقاله، أشار جوزف ستيجلز إلى أنّه «حتّى عندما نُصلح القطاع المصرفي، سنظّل في ورطة عميقة لأنّ المشكلة مُتجذّرة في صلب الاقتصاد، الذي لم تُعالَج اضطراباته الممتدّة منذ عقود، فكان السبب في أزمة الركود الطويل (1929) والكساد العظيم (2008)». ربط هذه الفكرة بالحالة اللبنانية، يقود إلى كلام الأستاذ في الاقتصاد، جورج سالم عن أنّ «وجود المصارف ضرورة، ولكن الأساس يبقى في وجود دولة سيادية، حينها لا يكون المال مُتعارضاً مع التنمية». في الفترة السابقة، «دخلت كميات كبيرة من الأموال إلى البلد، فيما الناس كانوا يرزحون تحت فقر أكبر. خسرنا البيئة والصحة والمياه وبقية الموارد، في حين أنّ الإنتاجية خفّت والمُنتفعين من النظام راكموا أرباحاً طائلة على حساب عامّة الشعب». ويُضيف سالم أنّ لبنان بلد صغير، «إعادة تحريك الاقتصاد، بوجود قدرات ونيات حقيقية، لا تحتاج إلى الكثير من المال. فهذه الأخيرة هي بالنتيجة كيان وهمي».
الاقتصاديون والمصرفيون الذين تحدّثت إليهم «الأخبار»، ذكروا أمراً مشتركاً اعتبروه «وجهة» لكيفية التعامل في «العهد المصرفي الجديد»، وهو قانون «غلاس ستيغال» الأميركي الذي صدر عام 1933 كردّ فعل على كساد عام 1929 الذي قضى على قرابة 4000 مصرف. يرتكز القانون على فصل الخدمات المصرفية الاستثمارية عن الخدمات المصرفية التجارية. أدّت عملية الفصل إلى منع توظيف أموال المودعين في الاستثمارات الخطرة والتركيز على نمو القدرات الإنتاجية، وسمحت بأن يأتي 10% فقط من دخل المصارف عبر بيع الأوراق المالية. يُقال إنّه خلال العمل بالقانون، عاد الاستقرار والثقة إلى القطاع المصرفي الأميركي، حتى عام 1999 حين وقّع الرئيس بيل كلينتون قانوناً جديداً يُلغي العمل بـ«غلاس ستيغال»، الذي بحسب بعض الخبراء أدّى إلى الانفجار المالي في عام 2008. انطلاقاً من هنا، يقول فراس صفي الدين إنّه «يجب على الأسواق المالية أن تُموّل الاقتصاد، ويكون الفصل في الأعمال واضحاً في القانون. لا نملك خياراً آخر لأنّ المصارف التجارية لن يكون لها أي دور في الاقتصاد على المدى القصير».
حالياً، تُشبه بعض المصارف التجارية الـ«وان مان شو» في السهرات، بأنّها تُقدّم كلّ «الخدمات»، وقد استحصل بعضها على تراخيص من مصرف لبنان لتنفيذ أعمال استثمارية، «بهدف رئيس هو المتاجرة بسندات الدين»، بحسب أحد الخُبراء الماليين، مؤكّداً بأنّ «ملفات هذه المؤسسات كانت مفقودة وأٌعيد تكوينها من جديد في هيئة الأسواق المالية قبل سنوات قليلة». ويُضيف رئيس مجلس إدارة مصرف «الاستثمار اللبناني – LIBANK» طوني غريّب بأنّ «المصارف التجارية تُقدّم قروضاً لآجال قصيرة أو متوسطة، واعتادت على الربح الناتج عن الفوائد المرتفعة. نحن بحاجة إلى مصارف استثمارية تُحاكي التطور العالمي وتستثمر في مشاريع تُعطي عائدات على المدَيين المتوسط والطويل». اللافت أنّ من يُروّج للمصارف الاستثمارية هم أصحابها وأبناء «الأسواق المالية»، رغم أنّها كانت موجودة في السنوات الماضية ولم يُسجّل لها أي مشاركة لافتة في الاقتصاد. «نحن لا نملك منفذاً إلى السوق المالية مثل المصارف التجارية»، يُجيب غريّب.
بدأت بعض المصارف التجارية تبحث في التحوّل نحو العمل الاستثماري
أما صفي الدين فيرى أنّه «لا يُمكن للمصرف الاستثماري أن يعمل في مناخ تُسيطر عليه المصارف التجارية». ما لا يقولانه أنّ المصارف التي ضاعفت رساميلها من 140 مليون دولار عام 1991 إلى 22 مليار دولار عام 2019 (بحسب الخبير الاقتصادي والمصرفي فريدي باز) مارست «الاحتكار» في السوق، مانعةً أن «يفلت» أي دولار خارج إطار الفوائد التي كانت تتلقّاها من مصرف لبنان والدين السيادي. كبرت الفقاعة «وأصبح هناك نوع من مصرف الاحتكار الكبير، فانهار وتسبّب بانهيار كبير وسريع»، يقول ديبة.
بدأت بعض المصارف التجارية تبحث في التحوّل نحو العمل الاستثماري، «لأنّه مستقبل العمل المصرفي في لبنان، والآن الوقت المناسب حتّى تدخل المصارف الاستثمارية برأسمال الشركات لتقويتها، وتحويل إداراتها إلى كيانات صلبة، وتحسين استخدام المنتجات الوطنية، وزيادة التصدير»، يقول أحد المصرفيين. «من هي الشركات التي سيتم إدراجها للاستثمار بها ومن يستثمر في هذه الظروف؟»، يسأل غسّان ديبة مُشكّكاً في كفاية الخطوة لتفعيل الاقتصاد. إنشاء مصارف استثمارية يعني «خلق قطاع مصرفي موازٍ. لماذا نُريدها؟ يجب أن يكون وجودها مُبرّراً، وبالتالي تكون جزءاً من السياسات الاقتصادية والصناعية والزراعية للدولة، لا أن تكون متروكة للسوق الحرّة». يُجيب المصرفي بأنّه «طبعاً سيتبخّر أي استثمار إن لم يترافق مع إطلاق العجلة الاقتصادية». وكيف تُطلق إذاً؟ «رسم خطّ وهمي بين الاقتصاد القديم والاقتصاد الجديد، أي استقطاب أموال جديدة من الخارج لإطلاق اقتصاد جديد، واستخدام الأموال الموجودة لتسديد القروض، إلى أن يلتقي الاقتصادان وتُسدّ الفجوة».
يجب وضع اليد على الذهب ليُشكّل قاعدة لإطلاق الاقتصاد
مدّخرات معظم الشركات سلبية، ولا يوجد سوق مالية مُتطورة، المصارف أفلست، وموازنة الدولة تُعاني من عجز، ومصرف لبنان يزيد التضخم عبر طباعة العملة من دون أن تترافق مع زيادة في الطلب على السلع، «كيف سنجذب الاستثمار؟ نحن بحاجة إلى اعتماد»، يقول جورج سالم، مُضيفاً أنّ الوحيد الذي يملك قدرة نقدية هو المصرف المركزي: الموجودات والذهب. الموجودات لن تكفي لردّ ودائع الناس «لأنّ خسائر المصارف كبيرة جدّاً». أما الذهب، «فيجب وضع اليد عليه، ليس لبيعه وتسديد خسائر الأوليغارشيين، بل ليُشكّل قاعدة لإطلاق الاقتصاد وتأسيس 3 مصارف: زراعي وصناعي وللبنية التحتية، مع إنشاء وزارة للاستثمار تُشرف على تحديد المواقع الرئيسَة بالاقتصاد التي تحتاج إلى ضخّ اعتمادات». الخطوات التي يطرحها سالم، من الواجب أن تقترن مع «إعادة ترتيب الاقتصاد الكلّي: مراقبة دائمة للميزان التجاري (الفارق بين الواردات والصادرات)، التحكّم بحساب رأس المال ومراقبة الأموال التي تخرج وتدخل، وعوض أن تذهب أموال المغتربين إلى الاستهلاك توضع في صندوق للاستثمار في البنية التحتية مثلاً».
إعادة دورة الاقتصاد بما يُسمح للأموال بالتدفّق من الخارج إلى الداخل، وتحديد دور المصارف مُستقبلاً، لا تحتاج إلى «فذلكة»، فـ«الروبة» المطلوبة لصنع اللبن موجودة. ولكن هذه الخطوات، يقول سالم: «لا تنجح في جوّ من المحسوبيات والفساد. الحلّ بسيط جدّاً تقنياً، وصعب جدّاً إيديولوجياً مع وجود طبقة تدميرية. ولا نعني بالطبقة الأفراد، بل الحالة التاريخية التي أفرزتهم».
هيئة أسواق مالية غير مُفعّلة
في لبنان هيئة للأسواق المالية… رئيسها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. من هنا، يبدأ الخلل في عمل هيئة يُنظر إلى دورها كأساسٍ في المرحلة المقبلة. للهيئة «دور رقابي، وعملها يختلف عن عمل المؤسسات التجارية»، يقول أحد أعضائها. ولكن رئاسة مصرف لبنان لها «أتت كحلّ تسووي على الطريقة اللبنانية، وساعدت في تخفيف نقمة المصارف التجارية عليها الخائفة من أيّ منافسة في السوق المالي».
عام 2011، صدر قانون الأسواق المالية، ولم يُعيّن مجلس إدارتها إلا في العام التالي، نتيجة خلافات على توزيع الأعضاء طائفياً. من بين الأمور التي تقوم بها الهيئة: «تنظيم وتطوير الأسواق المالية في لبنان والسعي إلى زيادة استخدامها، حماية المستثمرين من الممارسات غير المشروعة، تحديد إطار العمل وتنظيم النشاطات المهنية، تنظيم ورقابة عمل البورصات، طلب الملاحقة في جرائم استغلال وإفشاء معلومات مميزة أو ترويج معلومات خاطئة أو مضلّلة تتعلّق بصكوك أو أدوات مالية أو بمُصدّريها».
لا يزال قانون «الهيئة» غير مُطبّق، لجهة عدم تعيين المحكمة الخاصة بالأسواق المالية ولجنة العقوبات، أيضاً بسبب خلافات حول «تقسيم قالب الجبنة». يقول المصدر إنّ «مئات الشكاوى تصل إلى الهيئة، فتحفظها لأنّها لا تستطيع البتّ فيها بغياب الإطار القانوني، وعدم رغبة مصرف لبنان في الدخول في أي نزاع قانوني». التعيينات جرت أيضاً على بورصة بيروت غير المُفعّلة، فلجأ سلامة عام 2019 إلى إطلاق «منصة التداول الإلكترونية» التي فازت بإنشائها مجموعة بنك عودة وبورصة أثينا. البورصة الإلكترونية وُصفت يومها بأنّها «من أهم إنجازات هيئة الأسواق المالية». مُهمة إلى درجة أنّ «الحاكم بدأ يبحث في إلغاء المشروع، بسبب عدم تأمين الاعتماد اللازم من الجهة الفائزة، والعودة إلى التركيز على بورصة بيروت».
منصّة «إيدال» لجذب المغتربين… لم تعمل
بعد تعيين أعضاء «المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمارات في لبنان – إيدال»، في أيلول 2019، بدأت التحضيرات لإطلاق «منصة ملاءَمة الاستثمارات»، التي تهدف إلى تسجيل الشركات، قبل جذب المستثمرين (وتحديداً المغتربين اللبنانيين) للاكتتاب فيها، وتكبير رأسمالها وتفعيل عملها. تعتبر «إيدال» أنّ منصّتها هي «تعويض عن ضعف الأسواق المالية والبورصة»، وقد برزت حاجتها مع «عدم لعب المصارف دوراً في الاقتصاد، واقتصار تسليفات القطاع الخاص على قروض قصيرة أو متوسطة الأجل، نتيجة استفادتها من الفوائد المرتفعة ومشاركتها في إقراض الدولة. لم يعد لأحد المصلحة في تمويل أيّ استثمار». ولكن، منصّة «إيدال» لم تُطلق أيضاً، بذريعة «الظروف السياسية والأمنية».
(الاخبار)