أرمن لبنان يلبّون «نداء الواجب»: تحرير «أرتساخ» يمرّ ببرج حمود: آمال خليل
يمتدّ عمق الجيش الأرميني في معركته في إقليم ناغورني قره باخ إلى برج حمود. في معقلهم اللبناني، لا يكتفي الأرمن بالترقّب أو التضامن. بعضهم ذهب للقتال والدعم والإغاثة لأن «بالسلاح وحده ننقذ الأرمن»
إبّان معركة أرمينيا لتحرير إقليم ناغورني قره باخ من سلطة أذربيجان بداية التسعينيات، شارك هاغوب في التحركات التي نظّمتها برج حمود تضامناً مع البلد الأمّ. في الروضة التي كان تلميذاً فيها، تبرّع بـ«خرجيّته» لدعم «معركة الاستقلال»، وسار في تظاهرات، وصدح بأغنيات «كيداشان» (بلدة في الإقليم بقيت بيد الأذريّين الذين غيّروا اسمها إلى «شايكان»): «اليوم سنأخذ أرتساخ وغداً فان (ناخيتشيفان)».
بعد 26 عاماً، تستعيد برج حمود المشهد. صحيح أنّ أحداً لم ينزل الى الشوارع بعد للتظاهر مع معركة «حماية الاستقلال»، إلا أن أجواء المنطقة تصدح بأنشودة «تمردوا يا أرمن، أرتساخ تناديكم». ابن مرعش في كيليكيا، رافقنا في جولة أوحت بأنّ برج حمود جزء من قره باخ، رغم أن جميع أرمن لبنان لا ينحدرون من ذلك الإقليم، وكثيرون منهم لم يزوروه حتى بعد استقلاله عام 1994.
فوق جسر نهر بيروت، المؤدّي إلى برج حمود، خيمة صفراء تظلّل مطعماً صغيراً عند الزاوية اسمه «قره باخ». صاحبه جان ماموجيان لم يبدّل اسمه حديثاً تماشياً مع «الموضة». الاسم يعود الى نحو 30 عاماً، عندما اندلعت حرب تحرير الإقليم، وقد أطلقه على اسم المحل الذي افتتحه في اليونان يومها. «أنا أرمني. فار دمي»، قال المتحدر من تيغراناغرت التي حوّلها الأتراك إلى ديار بكر. بعد عودته إلى لبنان، قبل 15 عاماً، افتتح الفرع المحلي لمحلّه وأبقى على التسمية نفسها. لكن ماموجيان، شأنه شأن أبناء جلدته عندما يتحدثون عن «القضية»، لا يستخدم كلمة «قره باخ»، بل «أرتساخ». إذ إن الأولى هي التسمية التركية للإقليم، وتعني «الحديقة السوداء». أما الثانية فهي التسمية الأرمنية التاريخية المتوارثة. وأرمن لبنان، ككل أرمن العالم، لا يستسيغون التداول بأي إرث تركي.
في أنحاء مختلفة من برج حمود، خُطّت حديثاً على الجدران شعارات تواكب «معركة الحق والوجود». AZAD ARTSAKH (أرتساخ حرة) وAZARBIJAN ARDOGHAN VODJRAKORDZ
(أذربيجان وإردوغان مجرمان) يكاد زائر برج حمود يقرأهما على كل جدار في المنطقة التي سُمّيت شوارعها بأسماء المدن الأرمنية الأمّ قبل الإبادة والتهجير، وقبل أن يبدّل الأتراك أسماءها.
غارو، المهتم بجمع الوثائق عن تاريخ الأرمن، يؤكد أن ما يحصل «إبادة جماعية جديدة للأرمن. أعادونا مئة عام إلى الوراء». المظلومية الأرمنية عبر التاريخ، برأيه، عبّر عنها في مؤتمر تاريخي عقد في برلين لمناقشة حقوق الشعوب المضطهدة. رئيس الوفد الأرميني الأب خريميان حيريك، اختصر حال الأرمن بأنهم «عندما جلسوا حول المائدة لتناول الطعام على هامش المؤتمر، كان لديهم ملعقة من ورق، فيما كل شعب من بقية الشعوب كان لديه ملعقة من حديد». غارو سريعاً ما يستدرك: «الظروف الآن تغيّرت. نرى الجنود يذهبون للقتال بحماسة وفرح لحماية أرمينيا»، مذكّراً بأغنية منتشرة تقول «بالسلاح وحده ننقذ الأرمن».
كثر من أرمن برج حمود يعرفون جنوداً ومدنيين سقطوا في المعركة الحالية. الأسبوع الماضي غادرت دفعة أخرى من المتطوعين إلى يريفان للالتحاق بالجبهة أو بفرق الإغاثة والدعم، علماً بأن وزارة الخارجية الأرمينية سجلت بين أول تموز وبعيد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب، دخول 800 لبناني من أصل أرمني للاستقرار في يريفان بسبب الأزمة الاقتصادية وانفجار المرفأ الذي أدى الى سقوط 15 شهيداً و300 جريح أرمني. لا يخشى أهل برج حمود من الإفصاح عن اعتزازهم بـ«تلبية نداء الواجب». أكثر ما يطمئنهم، شعورهم بوقوف اللبنانيين معهم. «سأسافر غداً أنا وأسرتي للإقامة في يريفان. ابني الأكبر أنهى خدمته الإجبارية في الجيش سابقاً، لكنه سيتطوع الآن وحبّذا لو يأخذونه إلى أرتساخ»، تقول السيدة التي تضع علم بلادها كمامة على وجهها. بجانبها، وبعربية «مكسّرة، يهتف كاربيس كسباريان: «بالروح بالدم». يقول إن ابن شقيقته وصديقه المقيمين في كندا سافرا عام 2016 إلى أرتساخ للمشاركة في القتال دفاعاً عن الإقليم. صديقه بترت ساقه. لكنهما مستعدان للعودة إلى القتال مجدداً.
الأسبوع الماضي غادرت دفعة أخرى من المتطوّعين إلى يريفان للالتحاق بالجبهة أو بفرق الإغاثة والدعم
بتلهّف، يتابع الأرمن «القصص البطولية» على الجبهة. سهولة الاتصال ووسائل التواصل الاجتماعي والتوثيق البصري، تسهم في تحفيز معنويات أرمن لبنان والعالم الذين لا يملكون من زمن الإبادة سوى ذكريات متوارثة. بفخر، تتحدث آني عن قريبها الذي لم يعد إلى برج حمود بعدما أنهى دراسة الطب في يريفان. بتشجيع من عائلته، انتقل الى أرتساخ لتقديم العون الطبي للجنود. السيدة المسماة تيمّناً باسم مدينة أرمنية فيها ألف كنيسة وكنيسة، تمتلك متجر «يريفان» لبيع الهدايا والتذكارات التراثيّة المصنوعة في البلد الأمّ. نسألها عن توقعاتها. تشير إلى تماثيل أكواز الرمان الحمراء التي أفردتها على الرفوف. الرمان الذي تشتهر به أرمينيا صار رمزاً لانتصارها بعد الإبادة الجماعية. «تزوّد الناس بالرمان خلال رحلة الشتات إلى البلدان المجاورة. فكانوا يتناولون ويطعمون الأطفال حبة واحدة كل حين تمنحهم الطاقة والماء».
في مطعم وفرن «غزار» المتخصص بالأكلات الأرمنية التراثية، ثبّت جاك غزاريان رمز أرتساخ على الجدار. تمثال «الماميك» و«البابيك»، أو الجدة والجد، رمز أصحاب الأرض الأصليين والموجود في الإقليم، رسمه مع ابنتيه بالطبشور قبل ست سنوات إلى جانب جدارية أخرى لشارع برج حمود. جاك ابن مرعش، يتوارث مع مواطنيه «القضية الحلم أي أرتساخ التي تمثل حقنا الوجودي الذي استعدناه والآن نحافظ عليه». يقصد محل جاك الذي أسّسه جده عام 1965، سياح كثر. يعلم أن من بينهم قد يكون هناك أتراك وأذريون، لكن «لا مراوغة في الحق والهوية». قبل سنوات قليلة، لاحظ على أحد الزبائن انزعاجه وارتباكه ما إن دخل إلى المحل. علم لاحقاً بعد مغادرته أنه أذريّ انزعج من التمثال. يدافع جاك عن تحفّظه عن التعامل مع أبناء الدول التي اعتدت على وطنه، فـ«نحن المظلومون». يذكّر كيف أن الحكومة الأذرية تمنع على اللبنانيين من أصل أرمني دخول أراضيها حتى بجواز السفر اللبناني. «لست رساماً ولا مقاتلاً. أنا فرّان»، يقول جاك. لكنه يوقن بأنه يساهم في حفظ قضية الشعب الأرمني. يفاخر بانتصار حقّقه عندما كتب أحد الزبائن الأتراك الذي يملك سلسلة مطاعم في اسطنبول، تعليقاً على صفحة المحل بعد زيارته: «من يأكل في فرن غزار، يتأكد بأن اللحم بعجين أرمني» في إشارة إلى النزاع بين الشعبين على «ملكية» هذا الطبق.
(الاخبار)