مقالات مختارة

حرب تركيا الاستباقيّة: محمد نور الدين

منذ معارك طوفوز في 12 تموز/ يوليو الفائت بين أرمينيا وآذربيجان، والتي جرت على مقربة من المنطقة التي يمرّ فيها خط الأنابيب الآذري – الجورجي – التركي الشهير باكو – جيحان، ربما أدركت أنقرة وباكو خطورة تلك المعارك ودلالاتها النفطية. ومنذ ذلك الوقت، تتواتر الأنباء عن تعبئة آذرية – تركية مشتركة لمواجهة الخطر الأرمني المدعوم روسياً. فتكررت المناورات البرية والجوية في آذربيجان ونخجوان بين الجيشين التركي والآذري. وشاركت وحدات عسكرية آذرية في مناورات بحرية تركية في شرق المتوسط أخيراً.

 

وكثرت الأنباء عن توجّه المئات، وربما الآلاف من السوريين، في إدلب وعفرين، التابعين لـ«كتائب السلطان مراد» وغيرها إلى آذربيجان مقابل رواتب تتراوح من 500 إلى 2000 دولار، بل نُشرت صور وتسجيلات ومقاطع فيديو لهم أثناء وجودهم في آذربيجان. وقد تحوّل هؤلاء إلى ما يشبه «جيشاً موازياً» للجيش التركي يستخدم غب الطلب أينما احتاجت إليه أنقرة من سوريا إلى ليبيا، واليوم في القوقاز. لكن المفارقة أنّ هؤلاء «الجهاديين» لا يستسيغون القتال، وفقاً لتسجيلات منسوبة إليهم نشرت في وسائل إعلام تركية، إلى جانب الآذريين «الشيعة الكفرة». لكن استخدام هؤلاء لا شك يثير استياء روسيا، وهو ما يجعلهم يقبلون المهمة.

وكانت الاجتماعات العسكرية العليا تتواصل بين مسؤولي تركيا وآذربيجان. في الفترة التي تلت مباشرة معارك طوفوز، ربما كان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في صدد إضافة «إنجاز» جديد له بعد تمترسه بوجود قواته في سوريا وبعد تقدّمه على الجبهة الليبية، ومن ثم رفع الصوت والقبضة بوجه الاتحاد الأوروبي في اليونان وقبرص اليونانية وفي خطوة تحويل «آيا صوفيا» إلى جامع. ولكن على ما يبدو، فإنّ الخطة التركية لم تطابق حساب البيدر. وبدلاً من مراكمة الإنجازات، وجدت تركيا نفسها في موقع دفاعي:

1- الضغوط الروسية على تركيا لسحب بعض نقاط المراقبة التركية في إدلب والغارات الروسية – السورية على مواقع للإرهابيين في إدلب، مع استعداد تركي لتلبية الطلب الروسي مقابل إعطاء تركيا مناطق منبج وتل رفعت وجوارهما، وهو ما رفضته روسيا.

2- تغيّر الوضع في ليبيا بعد إنذار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ووقف التقدّم التركي عند خط سرت – الجفرا، ومن ثم بدء المباحثات بين الأفرقاء الليبيين وفقاً للتصوّر المصري، والأهم هو إعلان رئيس حكومة طرابلس فايز السراج تخلّيه عن موقعه في نهاية شهر تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، وما يمثّله ذلك من خسارة تركيا رجلها الأوّل هناك، وما يمكن أن تحمله التطورات المقبلة من تراجع إضافي للدور التركي.

الرغبة الآذريّة – التركيّة في تحريك الوضع كانت واضحة في الجهوزيّة الكاملة

3- وصلت التوترات شرق المتوسط ذروة غير مسبوقة مع الإصرار التركي على التنقيب والعمل في مناطق بحرية تعتبرها اليونان تابعة لها. وواكبت تركيا التوتر بمناورات «عاصفة المتوسط» مع قبرص التركية وأخرى شاركت فيها، بدلالة كبيرة، آذربيجان للمرة الأولى. لكن ردة الفعل الأوروبية كانت قوية وهددت بفرض عقوبات قاسية على تركيا في قمّة بروكسل التي كان مقرراً لها أن تنعقد في 24 و25 أيلول/سبتمبر الجاري، لكنها تأجلت إلى الخميس المقبل. وتلا التهديد بالعقوبات خطوة تكتيكية تركية بسحب سفينة التنقيب «ياووز» من منطقة جزيرة ميئيس اليونانية القريبة جداً من الساحل التركي. واعتبرت الخطوة تجميداً للتوتر وفتحت باب التواصل بين الرئيسين التركي والفرنسي إيمانويل ماكرون.

ماذا تريد تركيا؟

1- تحولت الاستعدادات الآذرية – التركية من السعي لإنجاز جديد يراكم ما يسبق إلى محاولة للتعويض على ما سبق والإعداد لهجوم يعيد تعويم صورة «تركيا القوية» لا المتراجعة. فكان التسريع بفتح المعركة الحالية مع أرمينيا في المناطق الجنوبية من قره باغ (أرتساخ) وعلى مقربة من الحدود الإيرانية. وما يدعم هذا التفكير هو أن الوضع الراهن المستقر نسبياً لا يضرّ بوضع أرمينيا ولا أرتساخ وليس من مصلحتهما تغييره إلا باتجاه انتزاع الاعتراف الدولي بحق أرتساخ تقرير المصير، وهذا غير مطروح حالياً. واستعادة صورة تركيا القوية واكبها إعلام إردوغان بالدعوة إلى قصف يريفان «من طريق الخطأ» بصاروخ والإعلان أن الحرب هي السبيل الوحيد لحل القضية جذرياً.

2- كذلك، فإن الرغبة الآذرية – التركية في تحريك الوضع كانت واضحة في الجهوزية الكاملة والمخطط لها للجيش الآذري الذي انتقل فوراً ومنذ اللحظة الأولى للإعلان عن بدء المعارك، إلى الهجوم والسيطرة على العديد من القرى والتلال المهمّة كما الطرقات في مناطق في قره باغ، قبل أن يستردّ الجيش الأرمني جزءاً منها على ما نقلته وكالات الأنباء. كذلك قصف الجيش الآذري عاصمة أرتساخ ستيباناكرد بعدة صواريخ.

3- إضافة إلى استعادة صورة تركيا القوية، فإن أي توتير للوضع في القوقاز يربك روسيا التي تعتبر المنطقة منذ قرون حديقتها الخلفية ولها علاقات ممتازة مع طرفَي النزاع؛ آذربيجان وأرمينيا. وتركيا ترغب في الضغط على روسيا، أوّلاً رداً على الضغط الروسي على تركيا في سوريا، وثانياً لاستياء تركيا من الموقف الحيادي لروسيا من الصراع التركي مع اليونان وفي شرق المتوسط.

4- كذلك، فإن التهديدات التركية العالية، أمس الاثنين، من قبل إردوغان ضد أرمينيا والدعوة لإعادة قره باغ إلى آذربيجان، أي العودة إلى جذور المسألة، والتهديد أيضاً بالانضمام إلى آذربيجان في المعركة، هي استباق أيضاً لاجتماع الاتحاد الأوروبي بعد غد الخميس ومنع صدور أي عقوبات على تركيا، على قاعدة وقف العقوبات مقابل وقف التوتير في القوقاز.

5- يشير مراقبون أتراك أيضاً إلى أن تركيا باتت منافساً قوياً لإسرائيل لبيع أسلحة إلى آذربيجان، ولا سيما طائرات المراقبة من بعيد وطائرات الدرون التي أثبتت فعاليتها في ليبيا. والتوتر الجديد الناشئ يدفع آذربيجان إلى المضيّ في شراء الأسلحة التركية، وهو ما يفسّر جانباً من رفع الصوت التركي إلى جانب آذربيجان وتكرار شعار «أمّة واحدة في دولتين»، مع علم تركيا المسبق أن دخولها الحرب مباشرة هو مغامرة غير مقبولة دولياً وتفتح على مخاطر كبيرة على تركيا نفسها وعلى علاقاتها مع روسيا والاتحاد الأوروبي.

(الاخبار)

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى