لحس المبرد مستمر بدون توقّف
غالب قنديل
يواصل اللبنانيون بتواطؤ جَماعي لعبة لحس المبرد بلا توقف، ويستمرِئون طعم دمائهم المُجمّعة في سندات الخزينة وفوائدها وشتّى منتجات الدَّين العام الظاهرة، أو التي يُخطَّط لها مستقبلا.
أولا: بدأت اللعبة من عشرات السنين، وكان لسندات الدَّين سماسرة ووكلاء وتجّار، راكموا ثروات لا تُعدّ ولا تُحصى، ونفخوا في الفقّاعة المالية الربوية، ومعها في الفقّاعة العقارية، وطمسوا حقيقة أن الدين العام اللبناني، من بين جميع رهونات العالم، هو رهنُ وطنٍ وشعبٍ بحاضره ومستقبله لصالح المجموعات المصرفية القابضة. والحقيقة التي طمسها المسؤولون والمتورِّطون، هي أن البلد صار قفّةً عارية من عظام لا خير فيها، بعدما استُنزٍفت جميع موارد الثروة. وعبثا يحاول نصّابو بيوت الخبرة المالية والألعاب المحَاسبية أن يصنعوا من الكارثة حساباتٍ توحي بالثقة.
هم يقولون لنا “البلد لن يقع”. وقد وقع منذ زمن. فماذا بقي من معالم الحياة خارج دائرة الاختناق، وخارج قبضة السماسرة المتحكّمين بالشاردة والواردة والطامحين الى المزيد بكلّ وقاحة. دعاؤنا مع الفقراء: لا أشبعكم الله. فتلك الأموال التي تجمّعت في أرصدتكم، هي دماء اللبنانيين وكدّهم وعرقهم، وبعضٌ من أرواحهم وأعمارهم، التي صارت أرقاما في جيوبكم.
ثانيا: ندعو الناس لعدم الاستماع الى الأكاذيب وأعمال البلف الحسابية بجميع طبعاتها، وأن يُقال لنا كلُّ شيء بألف خير، والغاية الفعلية هي أخذنا الى القبول مجدّدا بمواصلة لعبة لحس المبرد، ورهن أو بيع ما تبقّى من مدّخراتٍ وأملاكٍ عامة، يراهن السماسرة الدوليون على شرائها بأبخس الأثمان.
نعم صار وطن الأرز تفليسة معروضة للبيع في مناقصة عمومية. وأبناؤه في مقاعد المتفرّجين، بعضهم يصيح بكلام غير مفهوم، ومن خارج السياق، وهو أقرب الى الهلوسة والهتاف “الله حي” في جنازة. والبعض الآخر مذهول مضروب على رأسه، لا يعرف ماذا يقول. أمّا القوى السياسية والأحزاب، فبعضها منشغلٌ في كيفية تدبير صفقاتٍ وسمسراتٍ جديدة، وقد باتوا وسطاء في ملفات الدين العام وصفقات القروض، بحثا عن أرباح جديدة. والبعض الآخر حائر يندب الكارثة، ولا يطرح مشروعا جدّيا للخروج منها.
ثالثا: ليس لبنان في حاجة الى معجزة، لكنّه يحتاج الى إرادة ووعي وخطة عمل من خارج المألوف، تختلف عن جميع الوصفات السابقة، التي تاهت في دوامة الديون والرّهان على عامل الوقت.
اليوم، أيها السادة، صار الوقت أعلى كلفة، والدين أعلى كلفة، والفرص أقلّ بكثير من كلّ ما سبق، وجميع بيوت المال العالمية وحكومات النهّابين الدوليين تنظر الى لبنان على أنه تفليسة في مزاد. وهي تتلهّف لتمدّ اليد الى ما تيسّر من الصفقات والثروات، التي يمكن الاستحواذ عليها بأقلّ كلفة مُتخيّلة.
البلد أَوْلى بثرواته وممتلكاته، ولكن، مَن يمثّل البلد والإرادة الوطنية في مشروع جدّي للإنقاذ؟. ومَن لديه الشجاعة لإعلان برنامج بخطة طوارئ لمعالجة الأزمة ووقف الانهيار، دون التفريط بالاستقلال الوطني وبالممتلكات العامّة، ومن غير أيّ شكلٍ من أشكال الوصاية الأجنبية؟. فهذا وحده هو السبيل الحقيقي الى الإنقاذ الوطني، ووقف الانهيار عند نقطة معينة، تحصر الخسائر، وتُعيد البناء من جديد.
رابعا: يتبيّن لنا اليوم أن اللبنانيين كانوا وما زالوا صفريين، ينتظرون حلولا من الخارج، كلّفتهم الغالي والنفيس، وكان بمستطاعهم، لو اختصروا من بذخهم، واعتمدوا على إمكاناتهم الوطنية، ومنذ التسعينات، أن يعيدوا بناء لبنان بطريقة جديدة. لكنّ القوى السياسية على اختلافها، آثرت لعبة الريع والربا، وحوّلت البلد الى تفليسة مغلقة، فاحت روائحها اليوم، بعد كلّ تلك السنين. فقد اختمرت نفاياتها وفاض قيحها، وانكشف سماسرتها، الذين ليست ثرواتهم إلا دما لبنانيا متخثِّرا، جمعه طابور الشَّيلوكيين من أرباب المضاربة والدين الربوي الكريه.
لبنان يحتاج اليوم الى ثورة ثقافية، تنفض عنه عهود المضاربة والربا، وتدخله في عقلانيَّة الإنتاج الحقيقي، بعيدا عن فنون الفذلكة واجترار الهواء. فالإنتاج الصناعي والزراعي والتكنولوجيا الحديثة، تلك هي أبواب الحياة الجديدة، التي ينبغي على اللبنانيين طرقها وتعلّم التكيّف معها لإعادة بناء الوطن.
أيها اللبنانيون، لقد أخّرتم ساعة الحقيقة سنواتٍ وسنوات، وها أنتم من جديد في مجابهة جدار الانهيار والإفلاس، ولا سبيل لكم إلا الإنتاج بكلّ أنواعه، ولا طريق لإنقاذكم إلا الحفاظ على القليل من مدَّخراتكم التي تنضب. وعليكم اليوم أن تختاروا بين تبذير ما تبقّى، أو الرسملة عليه، لإعادةِ بناءٍ تَعتمد الإنتاج والكفاءة، وتتحمّل العيش بتواضع، بعيدا عن البذخ و”الفشخرة” والاستهلاك المقرف، الذي صرتم فيه مدرسةً يُضرَب بها المثل. لقد حانت ساعة الحقيقة، فلا تتوغلوا في الهاوية مرّة أخرى.