ليس التغيير وصفة سرية بل هو برنامج معلن
غالب قنديل
يكذب على اللبنانيين مَن يزعم أن البلد بألف خير أو يتصرّف وكأننا في مُناخ سياسي عادي يحتمل ترف الجدل في أسماء المرشّحين للمناصب، وفي الحصص الحكومية وكيفية توزيع الحقائب.
أولا: البلد في حال انهيار وخراب، وهو ذاهب الى كارثة أدهى من كلّ ما سبق، مع دخوله في نفق نضوب الثروة والخراب الاقتصادي الشامل. وكلّ عروض المعونة الغربية في مثل هذه الحال، في لبنان وغير لبنان من دول العالم الثالث، لم تكن سوى خططٍ لنهبٍ أشرس، ولسيرة استعمارية متجدّدة، تشمل أفقيا جميع وجوه الحياة الوطنية، وتتوغّل عموديا في كل شاردة. وسيكون غبيّا وواهما أو دجّالا مَن يُصوّر الأمور على غير هذا المنوال، فليست دول الغرب الاستعماري جمعياتٍ خيرية لإغاثة وإسعاف شعوب البلدان النامية.
والفكرة الأخطر، التي لا يجب أن تغيب عن بال اللبنانيين جميعا، هي أن للغرب ثأرا على شعبنا. وجميع الحكومات الغربية تغلي برغبة انتقام جامحة من البلد، الذي أذلّ الإمبراطوريات الغربية وربيبتها إسرائيل وجميع عملائها في المنطقة. هكذا يجب أن ينظر اللبناني الفطين، وبهذه الخلفية، الى كلّ ما يُحكى عن أزمتنا السياسية والمساعدة الغربية في تجاوزها. ولصوص الاستعمار مهما نظموا من القصائد والأشعار هم أنفسهم القتلة والسرّاقون، الذين تعرّفنا على مآثرهم القذرة في جميع الحروب الصهيونية، التي تعرّض لها بلدنا.
ثانيا: ما يحتاجه لبنان اليوم، هو صحوة شاملة وواسعة للوعي الوطني وللكرامة الوطنية، والتخلّي التام عن جميع وصفات التسوّل وخطب الكرامة المنقوصة، واسترجاع روح التحرّر والاستقلال، التي جسّدتها انتفاضات الكرامة في تاريخ بلدنا. فهذا البلد، الذي قدّم آلاف الشهداء دفاعا عن أرضه وعن كرامته في وجه الحروب الصهيونية، وولّد مقاومة شعبية عظيمة، طردت الاحتلال، لا يجوز أن يتصرّف باستكانة، وبعقدة نقص في مجابهة الهيمنة الغربية، فيُستضعف، ويتمّ إخضاعة لشروط الهيمنة اللصوصية والنهب. إننا ندعو اليوم الى انتفاضة فكرية ثقافية سياسية في وجه الهيمنة، وهنا بيت القصيد في تلمّس طريق الخلاص الحقيقي. فالإنقاذ ليس معجزة، وأول الخطوات، هي امتلاك الإرادة الوطنية والتفكير الوطني، أي القادر على التعبير عن مصالح ومشاعر جميع اللبنانيين دون تمييز، وعلى بلورة مشروع الخلاص بالإمكانات والقدرات الوطنية المتاحة للبنانيين، وبالشراكات العادلة والمنصفة مع الأشقاء والأصدقاء، بدلا من الخضوع لسيطرة المقرِضين وأندية الدائنين وشروطهم “الشَّيلوكية”. ولنا في تجارب غيرنا من الدول والبلدان أكثر من عِبرة، نستطيع العودة اليها لاستحضار الدروس من التجارب. وسيكون متخلّفا وعاقّا ومستغرقا في الجهل كلّ مَن يرفض أخذ العِبرة من تجربة غيره. وفي هذا المجال تراكمت خبرات كثيرة في دول العالم الثالث، تدلّنا على الخيارات الصحيحة الواجب اتّباعها.
ثالثا: إن النهوض بلبنان بعد الكارثة، التي حلّت نتيجة نظامه التابع ليس معجزة. وإعادة البناء الوطني على أسس جديدة هي الخيار الحقيقي، الذي يجب أن تتجّه اليه الأنظار والعقول. وبالتالي فإن الأصل في معالجة الأزمة الاقتصادية ليس اجترار نسخ معدّلة من الفذلكات المتصلة بهندسة الديون وفوائدها الربوية المتراكمة. وإحياء إنتاج الثروة هو عصب أي خيار إنقاذي. وهذا يعني أنّ على اللبنانيين إعادة تكوين ثقافة شعبية وطنية محورها الإنتاج: قل لي أيها اللبناني ماذا تصنع وماذا تزرع أقل لك كيف يمكن أن تعيش. ولا نتحدّث بهذا المحتوى بالمعنى البدائي المسطّح، الذي سيركض اليه العاجزون عن دحض منطق أن الخلاص بالإنتاج، بعقولهم المسطّحة والبليدة.
لقد استغرقت البلاد في نمط استهلاكي متضخّم وتابع للهيمنة لعشرات السنين، وطريق الخلاص تبدأ بردّ الاعتبار للإنتاج كقيمة وكنمط حياة. ولذلك يستحيل تجاوز الأزمة الراهنة دون ردّ الاعتبار للزراعة والصناعة الوطنيتين بجميع مجالاتهما ومستوياتهما. وليخرس السماسرة المتفذلكون من كَتبة الاقتصاد والمال، الذين يريدون حبس البلد في قجَّة أطماعهم.
إن القدرات والإمكانات البشرية اللبنانية كانت دائما مصدر تفاخر شعبي ومجتمعي ونخبوي، ولكننا لا نرى في العقل السياسي السائد غير الكُساح والاستكانة والاستسلام، وتجاهل إمكانات النهوض والقدرات المتاحة للبلد وأهله. والمطلوب هو انتفاضة وعي، تعيد التّذكير بالإمكانات والقدرات الوطنية المتاحة، وبالتراكم الممكن، شرط امتلاك الرؤية والخطة والإرادة، وعندها لا يغدو أعظم الأهداف مستحيلا. هكذا تصرّفت الشعوب التي أمسكت فعلا بناصية مصيرها.