قراءة في المشهد السياسي الأميركي عشية الانتخابات (1): زياد حافظ _
يعتبر العديد من المراقبين الأميركيين والدوليين والعرب أنّ الانتخابات الأميركية التي ستجري في مطلع شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 نقطة تحوّل تاريخية في مسار الأمور سواء كانت على الصعيد الداخلي الأميركي أو على الصعيد الدولي. فعلى الصعيد الداخلي يأمل البعض أن هزيمة الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمر حتمي سيعيد الأمور “إلى نصابها” دون التحديد ما هو مقصود بذلك. في المقابل هناك من يعتقد أنّ الرئيس الأميركي ما زال قويّاً ويتمتع بقاعدة صلبة ستمكّنه من الاستمرار في البيت الأبيض لمدة أربع سنوات إضافية. لكن بعيداً عن التكهّنات والتوقّعات من الطرفين المتخاصمين على الساحة الداخلية الأميركية هناك عدّة ملاحظات يمكن إبدائها حول التطوّرات المقبلة.
الملاحظة الأولى هي أنّ انتخابات 2020 هي استكمال لانتخابات 2016 التي لم تنته آنذاك بسبب رفض الحزب الديمقراطي ومعه النسيج الليبرالي والنيوليبرالي للنخب الحاكمة والدولة العميقة المتمثّلة بالمجمّع العسكري الصناعي الأمني المالي والإعلامي لنتائج تلك الانتخابات. فالسنوات الأربع التي مضت لم تشهد إلا محاولات (فاشلة) لخلع أو إسقاط الرئيس الأميركي عبر تلفيق اتهامات بالتواطؤ مع روسيا التي “تدخّلت” في الانتخابات عبر قرصنة البريد الخاص بالمنافسة الديمقراطية هيلاري كلنتون. لم تقبل القيادة الديمقراطية بأنّ المنافِسة كلينتون خاضت معركة سيئة ظهر فيها التعالي والاحتقار لشريحة واسعة من الشعب الأميركي (وصفتهم بالمنبوذين!) بل حاولت تبرير الهزيمة على التدخّل الروسي. ما تبع ذلك من تحقيقات واسعة النطاق أفضت إلى أنه لم يكن هناك أيّ دليل على التدخل. كما أنّ محاولات أخرى للإطاحة عبر محاكمة الرئيس بتهمة سوء استعمال السلطات لم تفض إلى شيء. المهم أنّ حالة الانقسام الحاد سادت في المشهد السياسي الداخلي بل تفاقم إلى حدود قد تصل إلى حرب أهلية داخلية.
الملاحظة الثانية هي أنّ الانتخابات ستجري في مناخ مضطرب للغاية حيث جائحة كورونا أفضت إلى بطالة فاقت 40 مليون وتدهور في الواقع الاقتصادي والاجتماعي ينذر بمآسي الكساد الكبير الذي ساد في الثلاثينات من القرن الماضي، وإلى موجة احتجاجات عنصرية وصلت في العديد من الحالات إلى اعتداءات على الأملاك العامة والخاصة وذلك وسط دعوات لإسقاط دوائر الشرطة وعدم تمويلها ودعوات الدفاع عن النفس من قبل المجموعات التي اعتبرت نفسها مستهدفة من خصومها أياً كانوا!
الملاحظة الثالثة هي أنّ تسييس جائحة كورونا من قبل ترامب وخصومه على حدّ سواء جعلت مواجهة الجائحة من الأمور الصعبة. ففي المراحل الأولى كان موقف الإدارة من الجائحة مائعاً حيث خطورتها لم تكن لتحظى بانتباهها بينما في مرحلة ثانية كان التشدّد في اتخاذ الإجراءات الصارمة لكن في المرحلة الثالثة (الحالية) هناك المزيج من التشدّد والتخفيف في الإجراءات. بات واضحاً أنه ليست هناك قناعة بأنّ الجائحة هي خطر فعلي بسبب تناقض التقارير الطبية والعلمية حولها. هذا حديث آخر لكن في آخر المطاف أصبح جزءاً من الخطاب اليومي والفاصل بين مؤيّد لسياسة الإدارة في مواجهة الجائحة ومعارض لها ليس على قاعدة علمية بل على قاعدة سياسية محض. وهذا الخلاف يساهم في تأجيج الاستقطاب والشحن الداخلي حيث المعركة أصبحت معركة تكسير عظم ليس إلاّ.
الملاحظة الرابعة هي انّ تجمّع الشركات الكبرى والإعلام والحزب الديمقراطي ساهم في تأجيج الخطاب المناهض للعنصرية ضدّ السود ولكن بالتصويب على إدارة ترامب. فالشركات الكبرى كشركة “نايك” للملبوسات الرياضية وشركة “أمازون” على سبيل المثال والمؤسسات التي تحمل شعارات الانفتاح كمؤسسة جورج سوروس دعمت مالياً حركة “بي أل أم” (بلاك لايفز ماتر، أي حياة السود مهمة) ولذلك لتحويل الانتباه عن الاقتصادية والاجتماعية لجائحة كورونا. كما أنّ تشجيع الاحتجاجات ضدّ العنصرية أدّت إلى تصاعد أعمال الشغب ضدّ الأملاك العامة والخاصة وذلك بمباركة الحزب الديمقراطي والمرشّح الرئاسي جوزيف بايدن. لكن ذلك ترافق مع نقض رموز الثورة الأميركية بحجة أنهم كانوا من ملاّكي الرقيق. هذا شكّل صدمة في صفوف بين البيض الأميركيين حيث أصبحوا يعتبرون أنفسهم مستهدفين من قبل عنصرية معاكسة. كما أنّ الحزب الديمقراطي بتبنّيه إعادة النظر في مؤسسات الشرطة جعله يقترن بحزب الفوضى. وتنامي حركات اليسار المتطرّف كحركة “أنتيفا” ساهم في تأجيج الخوف من الفوضى. هذا أدّى إلى تصاعد التأييد للرئيس الأميركي في استطلاعات الرأي العام حيث التعادل الو التفوّق البسيط يسقط التفاؤل المفرط الذي كان سائداً لصالح جوزيف بايدن.
الملاحظة الخامسة هي تراجع الصحّة العقلية للمرشح بايدن حيث حرص الحزب الديمقراطي على تقليل الظهور العلني له والاكتفاء بإلقاء الخطابات المكتوبة وعدم الارتجال. كما أنّ زعيمة الأكثرية الديمقراطية في مجلس الممثلين نانسي بيلوسي دعت إلى إلغاء المناظرات المرتقبة بين الرئيس الأميركي ومنافسه خشية من تحطيم صورة المرشّح أمام الشعب الأميركي. من جهة أخرى، فإنّ اختيار كامالا هاريس كمرشحة لمنصب نائب رئيس لم يساعد الحزب الديمقراطي على زيادة التأييد له في الانتخابات المقبلة بسبب عدم شعبيتها خارج ولاية كاليفورنيا التي تصوّت تلقائياً للمرشح الديمقراطي وخاصة في المدن الكبرى. وبالتالي لن تقدم أيّاً من الولايات المتأرجحة، بينما لو تمّ اختيار حاكمة ولاية ميشيغان غريتشن ويتمر أو الشيخة عن ولاية مينيسوتا امي كلوبشار، لتحسّنت ظروف بايدن بالفوز بالولايتين المتأرجحتين.
هذه الملاحظات تعكس مدى الاضطراب في المشهد الداخلي الأميركي. وما يؤكّد على ذلك التحوّل الذي يجري يوماً بعد يوم في استطلاعات الرأي العام حيث التفوّق الكبير الذي كان يحظى به بايدن في مطلع الصيف تراجع إلى مستوى التعادل وحتى في بعض الأحيان إلى الموقع السلبي. السيولة الفائقة في استطلاعات الرأي العام تعني أنه من الصعب التكهّن من سيفوز بالانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني. وما يزيد الطين بلّة هو الانفصام بين القاعدة الشابة للحزب الديمقراطي والقيادة التي شاخت وذلك في للعديد من الملفّات الداخلية والخارجية ما يجعل إقبال الشباب الديمقراطي على الاقتراع مسألة غير محسومة. من جهة أخرى أعرب برني ساندر عن قلقه لمسار الحملة الانتخابية للمرشح بايدن ما يعزّز القلق حول فرص الفوز في تشرين الثاني المقبل.
*كاتب وباحث اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي
(البناء)