المساعدات والدعم: وجهان للفساد والزبائنيّة: محمد وهبة
في لبنان توزّع المساعدات بطرق غير شفافة. لا أحد يعلم شيئاً عن المساعدات وعن آليات توزيعها. وفي لبنان أيضاً تدعم أسعار السلع الأساسية بطرق مماثلة لا يستفيد منها المستهلك سوى بمقدار استهلاكه. كلما كان الاستهلاك أعلى كانت الاستفادة أكبر. وبهذا المعنى تصبح قنوات المساعدة والدعم واحدة من أدوات تمويل الزبائنية والرساميل الاحتكارية
ثمة رواية منقولة عن وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال راوول نعمة تشير إلى أن ضابطاً وعناصر من الجيش طرقوا باب الوزير في برج رزق في الأشرفية أثناء جولتهم لتوزيع المساعدات وعرضوا صندوقة مساعدات وثلاث ربطات خبز. باقي الرواية ليس مهماً لأن جوهرها يتعلق بسلوك الدولة بكل ما يُسمّى مؤسساتها، في التعامل مع مسألة المساعدات، ومثلها التعامل مع مسألة السلع المدعومة. ببساطة، هي فوضى زبائنية يمارسها كل من استطاع إليها سبيلاً. إنها فوضى ممأسسة على يد نظام عمره من عمر الحرب الأهلية وربما قبل ذلك. نظام لا يمارس الحدّ الأدنى من الشفافية ويأكل أبناءه خدمة للشريحة المستفيدة.
لا تختلف مسألة المساعدات عن السلع المدعومة. سواء في توزيع الشاي السيريلنكي والسمك الموريتاني، وفي الأدوات الطبية ومستلزماتها، وفي دعم البنزين والمازوت والطحين… المشترك الأساسي في قنوات التوزيع هذه هو فسادها. في هذه المسائل، قد لا يصحّ التمييز بين القطاعين العام والخاص. فالعائد من قنوات التوزيع يذهب إلى الجهات نفسها. طبعاً تختلف طرق الاستفادة وكيفية الحصول عليها، وآليات التدخل تبعاً لرؤية كل فريق و«ثقافته».
على جبهة المساعدات، قرّر وزير الاقتصاد أن يستعمل 12500 طن من الطحين المقدم من المنظمة العالمية للأغذية في زيادة وزن ربطة الخبز 100 غرام وإبقاء سعرها بقيمة 2000 ليرة لمدّة 62 يوماً. استفادة المستهلك هنا لا تقارن باستفادة المنتج الذي سيبيع طحيناً مدعوماً بالسعر نفسه وبالأرباح نفسها. وفي الطحين أيضاً، تبيّن أن تركيا قدّمت نحو 300 طن وزّعها الجيش على أفران معينة من أجل إنتاج الخبز وتوزيعه على الفقراء. لم توزّع ربطات الخبز لا في طرابلس أو عكار ولا في البقاع أو في ضواحي بيروت الجنوبية والشمالية. لم يحصل فقراء هذه المناطق على الخبز المجاني، بينما لم تكشف أي إدارة في الدولة عن بيان بكمية المساعدات وبآلية توزيعها. إنها مسألة مرتبطة بشفافية التوزيع وآليات مراقبته. يكاد يكون الأمر معدوماً.
ينطبق الأمر على توزيع الشاي السيريلنكي. انكشف الأمر. لا داعي للتذكير به. في السياق نفسه، لا أحد يعلم لمن يذهب دعم السلع الأساسية. الأكثر استهلاكاً هم الأكثر استفادة من أي سلعة مدعومة. يفترض بمصرف لبنان أن يتكبّد نحو 210 ملايين دولار شهرياً لدعم هذه السلع. ثمة مثال واضح على الفساد والهدر في هذا الدعم: المواد المستعملة للأعلاف. هذه المواد يستوردها تجار إلى لبنان بعد موافقة وزارة الاقتصاد، لكن وزير الزراعة هو من يقرّر من يحصل على أي منها. بحسب مصادر مطّلعة، فإن الوزارة عمّمت على مزارعي الدواجن آليّة تتضمن «بونات» وخصصت لكل منهم «كوتا»، سرعان ما تبيّن أن حصص بعضهم أكبر بكثير من قدرتهم الإنتاجية، ما يثير سؤالاً أساسياً: أين تذهب باقي الكميات التي يحصل عليها هؤلاء بموجب ”البونات»؟ الإجابة بسيطة: ”تباع في السوق السوداء ولا تهرّب إلى سوريا كما يتهم البعض لأن سعر العلف في سوريا مساو لسعره في لبنان حالياً»، يقول أحد المستوردين.
إذاً، كيف تبرّر الوزارة استيراد كميات مدعومة أقلّ؟ يقول المستورد إن الكميات المستوردة أقلّ بسبب تراجع الاستهلاك بشكل عام، إنما الكميات التي أتت إلى لبنان وزّعت على المنتجين المحظيين ولم تراقب الأسعار، ما أدّى إلى وجود سلع مدعومة بأسعار غير مدعومة.
الأمر يتكرّر في دعم البنزين والمازوت. الكميات تأتي إلى لبنان لتباع بالسعر الرسمي المحدّد من وزارة الطاقة. الكميات التي تكاد توازي تلك التي استوردها لبنان في الفترة نفسها من السنة الماضية رغم تراجع الاستهلاك بسبب كورونا والأزمة الاقتصادية. رغم ذلك، يقدّر بعض التجّار أن هناك كميات هائلة من البنزين والمازوت (هناك تقديرات تشير إلى أكثر من 150 مليون ليتر مازوت وأكثر من 50 مليون ليتر بنزين) مخزّنة في مخازن غير شرعية أنشئت حديثاً أو جدّدت حديثاً.
لا تستثنى السلع الغذائية المدعومة من الفساد والهدر أيضاً. فهذه السلع تباع من المستوردين إلى تجار التجزئة وغالبيتهم من أصحاب السوبرماركت. الاثنان يتقاذفان التهم بشأن وجود هذه السلع وبيعها. المستوردون يتهمون السوبرماركت بأنها تعرض المبيعات على رفوف صغيرة وبكميات ضئيلة، بينما أصحاب السوبرماركت يتهمون المستوردين بأنهم لا يعرضون هذه البضاعة بكميات كافية عليهم. في كلتا الحالتين، هناك قسم من البضائع المدعومة تباع بأسعار غير مدعومة، أي أن الدعم ينهب من قبل التجار سواء كانوا مستوردين أو بائعي تجزئة.
مصرف لبنان لا يعفى من هذه المسألة. فهو متّهم من التجار المستوردين بأنه يتأخر كثيراً في فتح الاعتمادات وتسديد ثمن البضائع المستوردة، ما يعرّض هذه البضائع لكلفة رسوّ الباخرة وهي كلفة إضافية تفوق كلفة الدعم في بعض الأحيان. الدعم يتآكل بهذه الطريقة لتمويل أرباح التجار أو لتمويل أكلاف رسوّ الباخرة في المياه الإقليمية. هو إذاً فساد أو هدر.
وفي البنزين والمازوت أيضاً يحدث الأمر نفسه. شركة توتال تتّهم مصرف لبنان بأنه يتأخر لفتح الاعتمادات وتسديد ثمن شحنات البنزين والمازوت، وبالتالي فهي لا تفرّغ البواخر في الخزانات وتترك السوق للشحّ حتى تظهر صرخة المستهلك لتضغط من أجل تسديد الاعتمادات.
هذه هي حال الدعم في لبنان. المشكلة لا تكمن في أصل فكرة الدعم كما يسوّق لها مصرف لبنان، وإنما الأمر يتعلق بقنوات الدعم وآلياته التي غالباً ما تكون قنوات زبائنية أو رأسمالية – احتكارية. فهناك الكثير من التجار الذين حصلوا على كميات أكبر من السلع المدعومة عبر اتصالات مع هذا الوزير أو ذاك على حساب تجار آخرين لم يحصلوا على أي دعم.
المساعدات توزّع بشكل ضبابي واستنسابي وغير شفّاف والدعم يصبّ في جيوب المحتكرين والمحظيّين
باختصار، قنوات توزيع المساعدات والدعم في لبنان مكملة لحالات الاحتكار الاقتصادي والاجتماعي والتركز المرتفع في بعض القطاعات. إدارات الدولة وشركات القطاع الخاص تمارس اللعبة نفسها في الأيام العادية كما في أيام الأزمات. ربما في أيام الأزمات تكون الاستفادة أكبر. فالتجّار يموّلون أرباحاً أكبر ويحصلون على خدمة استبدال الرساميل الرخيصة برساميل أغلى ثمناً، وإذا استثنينا حصول السياسيين على رشى وسمسرات مالية، وهو أمر شبه مستحيل، فإنهم يستفيدون من الدعم عبر استفادة أزلامهم وتوزيع المساعدات والسلع المدعومة لشراء الولاءات السياسية، ثم يأتي من يقول إنه يجب استبدال قنوات الدعم ببطاقات. بماذا تختلف البطاقات عن القنوات الحالية إذا كان قرار توزيعها وتحديد المستفيدين منها بيد الشلّة نفسها؟
المشكلة التي تراود الجميع أن رفع الدعم قد يتحوّل من مشكلة فساد وهدر إلى أزمة تجويع وإفقار. فالدعم بصيغته الحالية، للأسف، هو أقل كلفة من التضخّم المفرط الذي قد ينشأ عن رفعه. فعندما سيرفع الدعم عن السلع الأساسية مثل البنزين والطحين والدواء والغذاء التي يقول مصرف لبنان إنها تكلفه شهرياً 700 مليون دولار، سيزداد الطلب على الدولارات الورقية بقيمة 8.4 مليارات دولار سنوياً من أجل تمويل استيراد هذه السلع. هذا النوع من الضغط سيشكل عاملاً مغذياً لمزيد من الانخفاض في قيمة الليرة وارتفاع في قيمة الدولار، وستصبح أسعار السلع المستوردة عرضة للمزيد من الارتفاع وستتفاعل مع عوامل الاحتكار والتركز والزبائنية لتصبح تضخماً مفرطاً يؤدي إلى زيادة متسارعة للأسعار زمنياً. وقد تطول مدّة هذه الأزمة وتفرض المزيد من طبع الليرات لتعويض السوق عن النقص في الكمية اللازمة للمبادلات المحلية، في ظل نقص هائل في كمية الدولارات المتاحة للمبادلات الخارجية. سيصبح الأمر كارثياً. هذه أزمة في بنية العقد الاجتماعي في لبنان. حتى لو كان هناك تصور للعقد الجديد، فإن المرحلة الانتقالية ستكون مفجعة.
(الاخبار)