لا حلول جذرية تحت سقف الهيمنة
غالب قنديل
كما تواضعت آمال الناس وطموحاتهم تحت ضغط الطحن المعيشي والاجتماعي، الذي يسحق مجتمعنا، فإن الطموحات السياسية والآفاق، التي تحكم العقل السياسي في بلادنا، باتت محصورة بالتحسين الجزئي والشكلي لشروط الهيمنة وتبعاتها، وكأننا لا نعيش في زمن مقاومة تحرّرية امتلكت قدرات رادعة، ورسمت حدودا لبطش الهيمنة الاستعمارية والعدوان الصهيوني.
أولا: إن العلّة المنهجية الأولى، والتي أسست لهذا الخلل الخطير، هي الفصل التعسفي والعشوائي بين قضية التحرّر الوطني والمحتوى الاقتصادي الاجتماعي لنمط العيش وضرورة التحرّر من الهيمنة الأجنبية بجميع أشكالها. ويقينا إن كل وصفة سياسية أو فكرة تُقترح من قلب الخضوع للهيمنة، لن تكون خطوة الى الأمام، بل سترتّب مزيدا من الأكلاف والخسائر على الصعيدين السياسي والاجتماعي.
إن الفصل بين مضمون العيش ونمطه وطبيعته الاقتصادية الاجتماعية وبين قضية الهيمنة وأفق التحرّر الوطني هو من سابع المستحيلات. ففي جميع تجارب الشعوب كانت التنمية والتطوّر الاقتصادي الاجتماعي وتخطّي الكوارث والأزمات والعيوب المتوارَثة من الأنماط المشوَّهة التي خلفها الاستعمار، بشكليه القديم والجديد، مرتبطة دائما بإرادة تحرّرية، تعبّر عن ذاتها سياسيا بمشاريع وطنية وقومية لإعادة البناء.
ثانيا: إن التفكير السياسي الذي يتعامل مع المشاكل بسطحية وبمنطق ردّ الفعل أثبت عجزه عن إنتاج حلٍّ وطني حقيقي، وبالتالي عن مراكمة الوعي الشعبي الضروري لبلورة الإرادة القادرة على تغيير التوازنات والمعادلات وفرض الانتقال الى مراحل جديدة. وإنها لَمُفارقة محزنة، بل مفجعة، أن يقف بلد المقاومة، التي غيّرت المعادلات الكبرى عاجزا وحائرا أمام معضلة التخلّص من الكارثة التي تلاحقه، وتلقي بثقلها على صدر شعبه المنكوب بسبب التخلّف السياسي والثقافي وفقر المخيّلة وحسّ المغامرة في اختبار وصفات جديدة من خارج المألوف والمعتاد، تحاكي شجاعة المقاومة، التي اقتحمت المستحيل وراكمت القدرة الرادعة للجبروت الأميركي الغربي وللعدوانية الصهيونية بروح المبادرة الشجاعة وبالاستعداد للتضحية بالغالي والنفيس في سبيل الاستقلال الوطني والتحرّر من سيطرة العدو. وينبغي اليوم أن نقول إن كلّ تهاون في ابتكار أشكال جديدة من المقاومة الشعبية والمبادرة لبلورة وعي جديد في التعامل مع الواقع الراهن، هو تكريس لمنطق الاستسلام للهيمنة، وتفريط بجميع التضحيات، التي بذلها اللبنانيون في العقود الماضية. فلا يُعقل، بأي منطق كان، التعايش مع نظامٍ تساكن مع الاحتلال الصهيوني ومشيئته، وتكيّف مع شروط الهيمنة الغربية اللصوصية النهّابة.
ثالثا: إننا ندعو الوطنيين القدامى والجدد الى انتفاضة كرامة، تردّ الاعتبار لإرادة التحرّر، وتتمرد على عمليات التدجين المتراكمة، التي روجّت الرضوخ للأمر الواقع والتكيّف مع شروط الهيمنة. فالتحرّر الحقيقي الذي كان حلما، ولا يزال، وهبته أجيال متعاقبة من الشباب المتمرّد أعمارها، وضحّت في سبيله، يمكن أن يصبح واقعا قائما باتحاد الإرادات. وهذا يتطلّب انتفاضة شاملة في الوعي، تعتق الجموع الحالمة من قيود التخندق الطائفي والسياسي والعقائدي، لتطلقها في مسار نهضة طنية جديدة.
لقد سطّر حزب الله ورفاقه في فصائل المقاومة اللبنانية المتعاقبة، وخصوصا من مناضلي حركة أمل والحزب الشيوعي اللبناني والحزب السوري القومي الاجتماعي وسائر الفصائل الوطنية التحرّرية صفحات خالدة من التضحيات والبطولات في سبيل قضية التحرّر. وثبت بالتجربة أن هذا الخيار هو الخيار التاريخي لتحرير لبنان من الهيمنة. وكانت المعضلة الفعلية، التي واجهت النضال الوطني، في عدم تحويل الحلف الوطني الكبير الحاضن للمقاومة الى جبهة متّحدة تمتلك برنامجا شاملا وجذريا لإعادة البناء الوطني.
لقد ضاع الكثير من زخم النضالات الوطنية والشعبية في زواريب الطائفية ومنطق الحصص في التقاسم التقليدي للسلطة، رغم هجاء الكثير من الوطنيين لنهج التقاسم والتحاصّ، الذي يحوّل المناضلين الى مجموعات متكيّفة مع الأمر الواقع وعاجزة عن المبادرة في حمّى البحث عن فتات الحصص المتاحة في رحِم لعبة التقاسم الطائفي للسلطة.
إننا ندعو، وبالفم الملآن، الى استعادة النبض الكفاحي والوعي النقدي الى العمل الوطني، مع التصميم على صون التحالفات الممكنة، التي تقودها المقاومة في الحياة الوطنية، ولكن مع إدارة جديدة للصراع، تكون أمينة لأهداف التغيير الأبعد مدى من حدود التسويات الطائفية والسياسية المحكومة بعقلية تقاسم الحصص والنفوذ في نظام استنفذ قدرته على الحياة والتجدّد، استحق تغييرُه بالمعنى التاريخي، ولم يجد حتى الساعة مَن يبادر من دعاة التحرّر الى التفاهم على بديل حقيقي بمضمون إعادة البناء الوطني الشامل والجذري، الذي ينهي عهود التخلّف والتبعية للهيمنة الاستعمارية.
إن جميع حركات التحرّر في التاريخ لم تتقدّم إلّا بملكة الحلم بالتغيير الأبعد مدى وبشجاعة المبادرة، بل والمغامرة أحيانا. والأحلام الثورية لم تتحقّق إلّا عندما جيّشت ونظّمت مَن آمنوا بها، فصاروا جيوشا هادرة وقوة قادرة على صناعة التغيير. لقد حقّقت مقاومتنا البطلة إنجازا يقارب الإعجاز بتحرير الأرض وبردع العدو، وهي حرّرت الوعي والإرادة كما حرّرت التراب. ومن العار أن نخذلها في مسيرة بناء وطني يشبه أحلام الشهداء العظام.