التقاط أنفاس أم تصحيح مسار؟: ناصر قنديل
– لم تصمد محاولات الإنكار الصباحية التي رافقت بعض مقالات صحف أمس، ورسائل وتقارير بعض مؤسسات التلفزة وقراءات ضيوفها، والتي أرادت تمويه الخلفيات الحقيقية للتعديل الذي طرأ على مضمون زيارة الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة مصطفى أديب إلى القصر الجمهوري ولقائه برئيس الجمهورية العماد ميشال عون، من عرض تشكيلة حكومية منجزة على قاعدة قبولها وتوقيعها أو الاعتذار وتحميل بعبدا مسؤولية إجهاض الفرصة الإنقاذية التي مثلتها المبادرة الفرنسية، ليحل مكانها إعلان أديب أنه جاء للتشاور، وبدء رئيس الجمهورية مشاورات لم تكن ورادة مع ممثلي الكتل النيابية، وتصوير ذلك كمجرد إخراج لحفظ ماء وجه الآخرين، وبعد الظهر بات واضحاً، ولم يعد ثمة فرص للأنكار، فتم التسليم بأن نكسة غير مرغوبة من أحد، ولم يكن أحد يخطط لها، قد أصابت الاندفاعة التي نالتها المبادرة الفرنسية مع انطلاقتها، وأن ثمة إصابة بالغة لحقت بصورة الرئيس المكلف بعد الإحاطة الشاملة التي حظي بها قبل تكليفه وبعده، وأن عملية التأليف التي قيل إنها منتهية، قد عادت لتبدأ من حيث كان يجب أن تبدأ قبل أسبوعين، وأن ثمة مَن أهدر الأسبوعين المتفق عليهما كمهلة كان ممكناً تشكيل الحكومة خلالها، ليحرف المهمة عن مسارها ويتسبب بإعادة الأمور إلى نقطة الانطلاق.
– ثمة من نصح وثمة من خطط وثمة من قبل وتورط، فتحوّلت مهلة الأسبوعين إلى تقطيع وقت لتظهير تشكيلة حكومية انتقامية، بخلطة سرية كأن أصحابها يدركون أنها مؤامرة سيؤدي انكشافها إلى إضعافها، وكأن رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورؤساء الكتل النيابية لاعبو كومبارس في مسرحية أبطالها رؤساء حكومات سابقون يختفون وراء الرئيس المكلف، ليضعوا على الورق تشكيلة حكومية، تترجم مشروعاً لتصفية حساب مع مَن يفترضونهم خصوماً، بخلفية وهم سياسي قائم على فرضية أن هناك فرصة لفرض أمر واقع، يحقق ما عجزت الحروب عن تحقيقه، وأن البديل الذي يجب فرضه لنظام الشراكة الطائفية هو نظام اللون الواحد، وتحصيل صلاحيات لرئاسة الحكومة تعادل صلاحيات رئيس الجمهورية قبل الطائف، من دون الحاجة لتعديل النصوص، والقراءة التي وضعها الرئيس السابق للحكومة فؤاد السنيورة ووافق عليها معاون وزير الخارجية الأميركية ديفيد شينكر، تبناها الرئيس الفرنسي امانويل ماكرون والرئيس السابق للحكومة سعد الحريري، وجرى إملاؤها على الرئيس المكلف الذي حوّلها إلى برنامج لمهمته.
– القراءة هي التي استدرجت قرار العقوبات على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس في منتصف مهمة التأليف، تسديداً للمطلوب أميركياً لنجاح المهمة. فالقراءة تقول إن المواجهات السابقة مع الفريق المناوئ الذي يمثله حزب الله فشلت لأنها راهنت على تحييد رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب، وأن بعضها فشل لأنه وقع على خطوط تماس انقسامية في الرأي العام، وبعضها الآخر فشل لأنه وقع على خطوط حسابات مريحة للقيادات السياسية، وأن بالإمكان الفوز بالمعركة في ظل متغيّرات قوامها تحوّلان كبيران، هما إعادة تشكيل الرأي العام على إيقاع الذعر من الانهيار الاقتصادي، وإعادة تشكيل المشهد السياسي على إيقاع الذعر من العقوبات، وأنه تحت تأثير هذين المستجدين هناك فرصة لا يجب أن تضيع تحت شعارات من نوع الحرص على مراعاة الإجماع والتراضي، وهي فرصة فرض أمر واقع سيخشى الجميع الاشتباك معه إذا تم تظهير «العين الحمراء»، أي إشهار جدي مثبت لسلاح العقوبات، يقنع الجميع بأن السيف يقترب من رقابهم إذا اعترضوا على هذا الأمر الواقع، وبالتوازي التهديد بسحب المبادرة الفرنسيّة وتحميل المعترضين على فرض الأمر الواقع مسؤولية أخذ البلد إلى كارثة اقتصادية ومالية، ووفقاً لمشروع السنيورة شينكر سارت الأمور لأسبوعين، فكانت العقوبات وكان التهديد الفرنسيّ وكان تصعيد الرئيس الحريري وكان أداء الرئيس المكلف.
– انتهى الاختبار الأول إلى فشل ما كان قدراً مكتوباً، بسبب الأوهام والحسابات الخاطئة. فالمعنيون أي حزب الله ورئاستا الجمهوريّة ومجلس النواب، وحركة أمل والتيار الوطني الحر، مجتمعين ومنفردين، يقيمون حساباً لمخاطر تحمّل مسؤولية إسقاط المبادرة الفرنسية، ويرغبون بألا يتعرّضوا لهذه المخاطرة. وقد ظهر ذلك في سياسات ومواقف كل منهم على طريقته، كما يقيمون حساباً للعقوبات الأميركية ويسعون لتفاديها، فيما عدا حزب الله الذي لا تعنيه العقوبات في ما يخصه، لكنه يقيم لها حساباً من موقع الحرص حكماً على حلفائه، وقد عبر كل منهم على طريقته عن هذا التقدير، لكن ما فات الخطة هو أن أحداً من المعنيين ليس بوارد تقديم نوعين من التنازلات تحت شعار تفادي هذين النوعين من المخاطر، الأول هو إعادة تشكيل قواعد النظام السياسي وفقاً لمعادلات طائفية لا يمكن إلا ان تشكل وصفة نموذجية للحرب الأهلية، ولو بعد حين، والثاني هو فرض خيارات تفرط بالثوابت السيادية كترسيم الحدود، وربما من بعده التوطين، تحت شعار تجسده العقوبات والمبادرة الفرنسية وهو قدموا التنازلات لتحتفظوا بأموالكم وتستجلبوا مالاً للبلد، فماذا لو صارت هذه التنازلات بحجم القضايا السيادية، وكان القرار الموحد بإبلاغ الراعي الفرنسي بكل محبة واحترام أن الذي يجري ينتهك قواعد المبادرة التي تم التوافق عليها، والقائمة على حكومة برضا الجميع، وحكومة تتفادى قضايا الخلاف، وأن حكومة الأمر الواقع عرف طائفي انتهى منذ الطائف، وأن استدعاء الخلاف حول العرف الخاص بالهوية الطائفية لوزارة المالية إذا كان موجوداً لحسمه باتجاه يخالف ما تم التسليم به مراراً، يعني نيات مبيّتة لحكومة منتصر ومهزوم، ونصف انقلاب، وأن التعامل مع رئيس الجمهورية وفق معادلة باش كاتب انقلاب كامل، وأن عدم التشاور في تشكيل الحكومة بصورة جدية مع الكتل النيابية لإذلالها وإهانتها بعدما قامت بتسمية الرئيس المكلف والطلب منها منح الثقة «على العمياني» لحكومة لم يعلموا عنها شيئاً إلا مع تشكيلها، جزء من خطة لشيطنة النظام البرلماني وتظهيره مجرد أداة تتلقى الإملاءات، وإساءة للمبادرة الفرنسية وصاحبها، وأن ذلك لا يمكن فصله عن مشاريع تعويم بديل هو منظمات وجمعيات تديرها السفارات، وفي الختام أن مواجهة فرضت على مَن لم يكن يريد المواجهة، وإذا كان صاحب المبادرة الفرنسية يرتضي أن تنقلب مبادرته على ما قامت على أساسه وتتحول إلى مجرد خدعة لتمرير الانقلابات المتعددة الوجوه، فإن المعنيين يأسفون لاضطرارهم للتصدي للأمر الواقع المراد فرضه.
– وصلت الرسالة وقرئت جيداً، والدول مصالح، وفرنسا وأميركا لم تتفقا على المبادرة على قاعدة اعتبارها راس حربة في هجوم، بل مشروع احتواء للمواجهة، عبر معادلة حكومة ترضي الجميع وتأجيل قضايا الخلاف، والاحتواء ليس منة ولا هبة ولا عطف. ففرنسا تدرك أن لها مصالح معرضة للتهديد في شرق المتوسط، في ظل الصعود التركي، وفرنسا واميركا تدركان أن لهما مصالح بوابتها لبنان يهددها الفراغ الذي يمكن أن يملأه المنافسون، وأن التراجع خطوة إلى الوراء للحفاظ على جوهر المبادرة وحساباتها ولو استدعى بدء العد للمهلة من اليوم، أفضل من العناد بالسير وراء أوهام ثبت قصورها عن فهم الواقع، وتبلغ اصحاب الأوهام بالتموضع على خطوط جديدة، فهل نحن أمام مجرد التقاط للأنفاس أم أمام تصحيح جدي للمسار؟